الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: منهج رشيد رضا في أدلة معرفة الله تعالى
تمهيد
…
تمهيد:
مسألة "إثبات وجود الله تعالى" لم تكن موضع استدلال في القرآن الكريم، بل كانت هي نفسها دليلاً ـ في هذا الكتاب العزيز ـ استدل به على ألوهية الله تعالى واستحقاقه وحده للعبادة.
فمسألة وجود الله تعالى مسألة بدهية، ونجد هذه البداهة متقررة حتى عند ذوي العقول المنحرفة من المشركين، يقول الله تبارك وتعالى عنهم:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1 ويقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2، وأما الآيات التي يستدل بها على هذه المسألة وأنها نزلت لإثبات وجود الله تعالى، فليست من ذلك في قليل أو كثير، وإنما نزلت تقريراً لتوحيد الله تعالى وألوهيته وصفاته العليا.
كذلك لم تظهر هذه المسألة في القرون المفضلة التي كانت امتداداً للعصر النبوي الذي كان هو بالأحرى عصر الإيمان بصفات الله وتوحيده، ولم تطرح فيه هذه المسألة على هذا النحو أبداً.
ثم كانت الفلسفة اليونانية وانتقالها إلى عالمنا الإسلامي، ونشأت مباحث محدثة في العلم لم تكن من قبل، ومنها مسألة النقاش والاستدلال
1 سورة الزخرف، الآية (87)
2 سورة لقمان، الآية (25)
على وجود الله تعالى، وكان المتكلمون المسلمون هم الطرف الإسلامي في هذا النقاش.
"وأما في هذا العصر فقد كثرت فيه الملاحدة والمعطلة، وتجددت للكفار على اختلاف فرقهم شبهات جديدة يتوكؤون على مسائل من العلوم العصرية لم تكن معروفة عند الأقدمين، وحدثت للناس آراء ومذاهب في الحياة فيها الحسن والقبيح، والنافع والضار، بل منها ما يفضي إلى فساد العالم وتقويض دعائم العمران، ومثار ذلك كله ذيوع التعاليم المادية وفوضى الآداب وتدهور الأخلاق وتغلب الرذائل على الفضائل.."1. لقد وقف الإنسان في هذا العصر على شيء من الأسباب التي قام عليها نظام الخلق، فكان ذلك فتنة له، وانشغل بهذه الأسباب عن الفكر في خالقها، حتى ملكت عليه نفسه، فأنسته إياها، ودفعت به إلى إنكار خالقه وخالقها تبارك وتعالى.
ولذا فإن علماء المسلمين ـ في هذا العصر أيضاً ـ كانوا مضطرين للخوض في هذه المسألة والجواب على أسئلة المؤمنين الذين شوشت عليهم أفكار وأقوال الملحدين المعطلين.
ولم يلتفت العلماء إلى الرأي القائل بطرح هذه المسألة من مباحث العقيدة لأنها بدهية 2، وخاضوا فيها ولسان حالهم وقالهم، يقول:"لولا كثرة الضعفاء مع كثرة الدخلاء فينا الذين نطقوا بألسنتنا، واستعانوا بعقولنا على أغبيائنا وأغمارنا، لما تكلفنا كشف الظاهر وإظهار البارز"3.
وكان من هؤلاء العلماء الذين تلقوا أسئلة المؤمنين والملحدين، وأجاب عن هذه ورد هذه، وبحث في هذه المسألة: الشيخ محمد رشيد رحمه الله، فنريد أن نعرف منهجه في ذلك.
وقبل هذا نود أن نعرف المنهج الذي سلكه المتكلمون والفلاسفة قديماً في نفس الموضوع.
1 محمد رشيد رضا: تفسير المنار (9/ 309)
2 انظر: عبد الحليم محمود: الإسلام والعقل (ص: 48)
3 محمد جمال الدين القاسمي: دلائل التوحيد (ص: 75) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1405هـ.
ثم نرى إن كان الشيخ رشيد قد انتهج منهج أحد الفريقين أو سلك طريقاً آخر.
أولاً: منهج المتكلمين:
ذهب المتكلمون إلى أن مسألة المعرفة نظرية، وبنوا على ذلك نظرية جدلية، ذات مقدمات طويلة، معتاصة، ثم اختلفوا في هذه المقدمات، ولم يتفقوا على شيء منها، فقد ذهبوا إلى أن العالم حادث، ودليل حدوثه حدوث ما فيه من الجواهر والأعراض. قال الرازي 1:"قد عرفت أن العالم إما جوهر أو أعراض، وقد يستدل بكل واحد منها على وجود الصانع، إما بإمكانه أو حدوثه، فهذه وجوه أربعة.."2.
وهذا هو المقصود بالنظر عند المتكلمين، وظاهر أنه نظر عقلي جدلي، وهذا النظر هو اصطلاح لهم، وإلا فإن النظر الذي دعا إليه القرآن، ليس محله القضايا المنطقية الجدلية، وإنما محله الكون والإنسان.
وبعد ما ذكر الرازي القانون السابق طفق يستدل على كل جزئية من جزئياته، وما تفرع منها كذلك، ورغم أن منها ما هو بدهي لا يحتاج إلى إثبات كحدوث العالم بعد أن لم يكن.
ثانياً: منهج الفلاسفة:
وافق الفلاسفة المتكلمين في "نظرية المعرفة" وإن كانوا خالفوهم في الطريق. فقد سلك الفلاسفة طريقاً آخر هو طريق الإمكان والوجوب، فقد قسموا العالم إلى ممكن وواجب بدلاً من قديم وحادث، قال ابن سينا: "ما
1 تقدمت ترجمته (ص: 341)
2 المحصل (ص:337) ط. دار التراث، وانظر أيضاً الأشعري: رسالة إلى أهل الثغر (ص: 81 ـ 83) ، ط. الجامعة الإسلامية، والباقلاني: التمهيد (ص: 43)، والبغدادي: أصول الدين (ص: 68)، والإيجي: المواقف (ص: 266)، والبيجوري: شرح جوهرة التوحيد (ص: 48) ومصطفى صبري: موقف العقل (2/ 165) وما بعدها، وانظر أيضاً: ابن تيمية: النبوات (ص: 72 و77) ط. دار العلم، بيروت. ودرء التعارض (7/ 311)
حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته، فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن، فإن صار أحدهما أولى فلحضور شيء أو غيبته. فوجود كل ممكن هو من غيره" 1. ثم قال:"إما أن يتسلسل ذلك إلى غير نهاية فيكون كل واحد من آحاد السلسلة ممكن في ذاته، والجملة متعلقة بها، فتكون غير واجبة أيضاً وتجب بغيرها"2. ففي الفقرة الأولى أشار إلىأن الممكن لا يوجد إلا لعلة تغايره. وتقريره أن الممكن إما أن تحتاج ذاته في أن تكون موجودة إلى غيرها أو لا تحتاج، والثاني باطل لاستحالة الترجيح بلا مرجح. إذن الأول حق. وفي الفقرة الثانية يريد إثبات واجب الوجود لذاته. وتقرير الكلام بعد ثبوت احتياج الممكن إلى الغير ـ أن ذلك الغير إما واجب وإما ممكن. والكلام في ذلك الممكن كالكلام في الممكن الأول، فأما أن ينتهي إلى واجب أو يدور 3 أو يتسلسل 4 إلى غير نهاية فتبين أن سلسلة الممكنات ـ على فرض وجودها ـ محتاجة إلى شيء خارج عنها 5. وهذه الطريقة كما هو ظاهر هي عقلية نظرية جدلية، ومبنية على مقدمات منطقية أعقد وأطول من مقدمات المتكلمين في مسألة "حدوث العالم" وهي مع ذلك أشد فساداً منها وأسوأ لازماً 6.
1 الإشارات والتنبيهات (3/ 20 ـ 21) .
2 المصدر نفسه.
3 الدور: هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه، فإذا قيل إن ممكناً هو (أ) متوقف وجوده على ممكن آخر هو (ب) ثم قيل إن (ب) الذي يتوقف وجود (أ) عليه متوقف في وجوده على (أ) آل الأمر إلى أن (أ) متوقف في وجوده على نفسه. ومعنى توقف وجوده على نفسه أن وجوده من ذاته ووجود الممكن من ذاته مستحيل كما هو الفرض. انظر: سليمان دنيا: مقدمة الإشارات (1/ 31) والجرجاني: التعريفات (ص: 94)
4 التسلسل: هو ترتيب أمور غير متناهية وأقسامه أربعة. انظر: سليمان دنيا: مقدمة الإشارات (1/ 33) وما بعدها، والجرجاني: التعريفات (ص: 49)
5 انظر: الطوسي: شرح الإشارات حاشية الإشارات والتنبيهات، وانظر: سليمان دنيا: مقدمة الإشارات (1/ 28) وما بعدها.
6 وانظر لتفصيل نقد هذه الطريقة: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 8) وما بعدها، والنبوات (ص: 73 ـ84) ، ومنهاج السنة (1/ 96) ط. جامعة الإمام، الأولى، 1406هـ، ت: رشاد سالم.
وهدفنا فيما يلي إن شاء الله الوقوف على تقرير الشيخ رشيد لأدلة المعرفة: الفطرية والنظرية، ومنهجه في تقريرها والاستدلال بها في معرفة الله تبارك وتعالى.
وإذا كان المتكلمون يذهبون إلى أن معرفة الله تعالى نظرية، وينكرون المعرفة الفطرية الضرورية 1، فإن أهل السنة من السلف فمن بعدهم يذهبون إلى أن معرفة الله تعالى فطرية، وهم مع ذلك لا ينكرون النظر وأهميته في معرفة الله تعالى، ولكنهم يقولون بالنظر الشرعي الذي أمر به الله تعالى، لا النظر الجدلي الذي اخترعه المتكلمون وأطلقوا عليه هذا الاسم من باب المغالطة.
فلدينا ـ إذن ـ مذهبان في المعرفة: مذهب المعرفة الفطرية، ومذهب المعرفة النظرية.
ويعرض الشيخ رشيد هذين المنهجين ويجمع بينهما، قائلاً:"إن المسألة فطرية في الحقيقة، وإن إقامة الأنبياء والحكماء الحجج عليها هي لإصلاح فطرة من عرضت لهم الشبه فيها، كما تعرض في غيرها من الأمور الفطرية والضرورية،.. لذلك قال الله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..} 2 فأشار أولاً إلى أن الإيمان به أمر ثابت في الفطرة لا موضع للشك فيه، ثم ذكر بعض صنعه الدال على قدرته وانفراده بالتأثير والتدبير وهو كونه فاطر السماوات والأرض، أي: شق وفصل بعضها من بعض.."3.
على أن النظر الذي يؤيده الشيخ رشيد رضا، مخالف لنظر المتكلمين وموافق للنظر القرآني، كما سوف يتبين إن شاء الله.
1 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص:48 و 52 ـ 54) ط. مكتبة وهبة، الأولى 1384هـ ت: عبد الكريم عثمان.
2 سورة إبراهيم، الآية (10)
3 مجلة المنار (7/ 139)