الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: نشأة رشيد رضا على مذهب الأشعرية وتحوله عنه:
لقد نشأ الشيخ رشيد ـ يوم نشأ ـ على ما ينشأ عليه لداته وأترابه من طلبة العلم، فدرس الكتب المتداولة يومه ذاك، فقرأ "أم البراهين" و "جوهرة التوحيد" وشروحهما 1 على شيوخه الأزهريين. وكان الطالب يومئذ يُعد ليكون متكلماً مجادلاً، وفقيهاً مقلداً. وكان الشيخ رشيد يحاول أن يفهم ما في هذه الكتب التي لُقنها في بداية طلبه للعلم في طرابلس الشام، ويحاول أن يُفهمها للعوام فيعجز عن ذلك 2. وكان ـ متأثراً بهذه النشأة ـ يرى:"أن كتب الأشاعرة هي وحدها منبع الدين وطريق اليقين" 3، وكان ينظر إلى آراء السلف في هذه الكتب فيحسب أنهم "قوم جمدوا على ظواهر النقول وما فهموها حق فهمها ولا عرفوا حقائق العلوم وطابقوا بين النقل وبينها"4. وبقي الشيخ رشيد على هذا، حتى أنشأ المنار وشرع في شرح العقيدة في "أمالي دينية" اعتمد فيها على ما نشأ عليه من كتب المتكلمين، فأخذ يشرح ـ في الإيمان بالله ـ اصطلاحات المتكلمين: الوجوب والواجب، الاستحالة والمستحيل، الإمكان والممكن، الترجيح بلا مرجح، حدوث العالم، معتمداً في ذلك على "السنوسي" 5 والإيجي" 6 وكان يرى أن هذه الكتب هي أمثل كتب العقائد 7.
1 انظر: مجلة المنار (1/ 472ـ 473، 2/ 421، و 23/ 124)
2 انظر: مجلة المنار (33/ 124)
3 انظر: مجلة المنار (8/ 614)
4 المصدر السابق والصفحة.
5 هو: محمد بن يوسف السنوسي الحسيني، عالم تلمسان في عصره، له العقيدة الكبرى والصغرى وغيرهما. الزركلي: الأعلام (7/ 154)
6 هو: عبد الرحمن بن أحمد عضد الدين، عالم بالأصول والمعاني والعربية، له: المواقف في علم الكلام، والعقائد العضدية وعليها حاشية للجلال الدواني. الزركلي: الأعلام (3/ 295)
7 انظر: مجلة المنار (2/ 522، و 2/ 506 ـ 507)
ولكن ما لبث الشيخ رشيد أن تحول تدريجياً ـ عن هذا الاتجاه ـ وأقول تدريجياً ـ لأن الأفكار لا تتحول في يوم وليلة ـ ولا سيما أن الشيخ رشيد قد رافق رجلاً ـ أول عهده قد تأثر بالفلسفة القديمة والحديثة، وارتبط به ارتباطاً وثيقاً حتى صار " ترجمان أفكاره" هذا الرجل هو الشيخ محمد عبده. لذا كان التحول تدريجياً وزادت سرعته بعد وفاة أستاذه 1. ولكن متى كانت بداية هذا التحول؟
إن أول مرة ورد فيها اسم عالم سلفي في مجلة المنار كان في المجلد الثالث، فقد ذكر الشيخ رشيد اسم "العلامة ابن القيم" في أثناء رده على طائفة الجبربة23، وفي المجلد الثالث أيضاً وقف الشيخ رشيد على إحدى رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي "الواسطة بين الحق والخلق" فقرظها في مناره 4. ورغم أن الشام هي الموطن الأصلي لشيخ الإسلام إلا أن الشيخ رشيد لم يعرفه هناك، وربما كان السبب في ذلك أن كتب شيخ الإسلام قد تعرضت لحملات إبادة من خصوم دعوته 5.
ومهما يكن من شيء، وبدءاً من هذا المجلد الثالث ارتبط الشيخ رشيد بمؤلفات السلف، وكان لانتشار مجلة المنار في العالم الإسلامي أثر كبير في ذلك، فلقد استطاع أن يحصل على مؤلفات شيخ الإسلام التي انتشرت في كل مكان بواسطة قرائه السلفيين في العالم الإسلامي 6.
1 توفي الشيخ محمد عبده يوم الثلاثاء ثامن جمادى الأولى 1323هـ. = 19 يوليو 1905م. انظر: مجلة المنار (8/ 378)
2 نسبة إلى الجبر: وهو في باب القدر مذهب الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على أفعاله الاختيارية؛ كالريشة المعلقة في الهواء. انظر: البغدادي: الفرق بين الفرق.
3 انظر: مجلة المنار (3/ 439/) ثم ذكر اسم شيخ الإسلام وقرظ بعض كتبه (3/ 651)
4 وأعاد ذلك في 4/ 272 و 463 وانظر: 3/ 651)
5 انظر: ناصر الدين الألباني: مقدمة الكلم الطيب (ص: 3)
6 انظر: مجلة المنار (26/ 243) وبنفس الطريقة وصلت إليه كتب ابن القيم: انظر: مجلة المنار (6/ 500) وقبله وصله: لوامع الأنوار. وانظر: مجلة المنار (10/ 145)
وفي المجلد السابع من المجلة تحديداً حدث تغيير أساسي في منهج الشيخ رشيد، مما حدا به إلى أن يسمي هذا العام بـ" سن التمييز":"فقد دخل المنار في العام السابع من حياته، وهو سن التمييز في الحياة الشخصية، ولعل حياته تكون في هذا الطور خيراً منها فيما قبله إن شاء الله تعالى 1". وفي هذه السنة وقع كتاب "لوامع الأنوار" للسفاريني الحنبلي 2، في يد الشيخ رشيد بواسطة "بعض محبي العلم والدين من العرب" 3، فأرسل منه نسخة خطية للشيخ رشيد فطبع منها عدداً من النسخ وقفاً على طلبة العلم في بلاد مختلفة، وطبع منه الشيخ رشيد على نفقته عدداً آخر 4، ويحسن أن أنقل كلام الشيخ رشيد عن هذا الكتاب، إذا يبدو لي أن هذا الكتاب كان أول الطريق السلفي الذي سار فيه الشيخ رشيد، وتعرف منه ـ ومن خلال ما ينقله السفاريني عن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ـ على منهج السلف في مسائل العقيدة، يقول: الشيخ رشيد تحت عنوان: "شرح عقيدة السفاريني":" للشيخ محمد بن أحمد السفاريني الأثري الحنبلي رحمه الله تعالى عقيدة منظومة اسمها: "الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية" بلغني أن الشيخ حسناً الطويل 5، ـ عليه الرحمة ـ قال لما اطلع عليها ما معناه: إن هذه أول عقيدة إسلامية اطلعت عليها. ولناظمها شرح مطول عليها سماه: لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية" جمع فيها المؤلف أقوال السلف والخلف ومذاهب الفرق في مسائل
1 مجلة المنار (7/ 1) وفي هذه التسمية دليل على أنه في الأعوام السابقة كان مختلطاً
2 هو محمد بن أحمد بن سالم النابلسي الحنبلي عالم بالحديث والأصول والأدب، صاحب تصانيف، ولد 1114، وتوفي 1189هـ. انظر: ترجمته: محمد خليل المرادي: سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر (4/31) ط. مكتبة المثنى بغداد. والزركلي: الأعلام: (6/ 14)
3 انظر: مجلة المنار (10/ 145)
4 المصدر نفسه والصفحة.
5 هو حسن بن أحمد بن علي، فاضل مصري، مالكي أزهري، جاهر بنصرة مهدي السودان، كان شديداً على المبتدعة، له كتاب في التفسير، ت: 1317هـ = 1899م. انظر: الزركلي: الأعلام (2/ 183)
الاعتقاد، وبين رجحان مذهب السلف على غيره، مؤيداً ذلك بالدلائل النقلية وكذا العقلية فيما يستدل على مثله بالعقل، واقتبس جل تحقيقاته فيه من كلام الإمامين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم عليهما الرحمة والرضوان.. وجملة القول: إن هذا الكتاب لا يستغنى عنه بشيء من كتب العقائد التي يتداولها طلاب العلم، وكلها من وضع المتكلمين الذين جروا علىطريقة فلاسفة اليونان.."1. لقد وصل كتاب لوامع الأنوار للشيخ رشيد مبكراً، إذ أن أول نقل عنه كان في أثناء المجلد السابع، ولكنه كان يحتاج إلى وقت حتى يقرأ الكتاب قبل الشروع في طبعه ونشره، فمن المرجح أنه وصل إليه قبل ذلك بكثير.
ومهما يكن من شيء فبدءاً من المجلد السابع بدأ الشيخ رشيد ينقل عن السفاريني تصريحاً، فينقل نصوصاً كاملة من الدرة وشرح السفاريني عليها 2. وصار بعد ذلك اعتماد الشيخ رشيد في دروسه الدينية على هذا الكتاب وحده بدلاً من " الإيجي" " والتفتازاني" 3 وفي إحدى هذه المرات يعلق الشيخ قائلاً: " كنا عند ابتداء الاشتغال بعلم الكلام نرى في الكتب خلاف الحنابلة فنحسب أنهم قوم جمدوا على ظواهر النقول
…
ثم اطلعنا على كتب القوم فإذا هي الكتب التي تجلي للمسلمين طريقة السلف المثلى، وإذا بقارئها يشعر ببشاشة الإيمان، ويحس بسريان برد الإيقان، وإذا الفرق بينها وبين كتب الأشاعرة كالفرق يبن من يمشي على الصراط السوي ومن يسبح في بحر لجيّ، تتدافعه أمواج الشكوك الفلسفية وتتجاذبه تيارات المباحث النظرية، وقد ظهر لي أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم.."4. ومن ذلك الحين ـ وكما ذكرت ـ صار اعتماد الشيخ على
1 وقد طبعه الشيخ رشيد بمطبعته باسم: " لوائح الأنوار" انظر: المجلة (10/ 145)
2 انظر: مجلة المنار (7/ 857و 859، 8/ 614، 8/ 649، 9/ 23 ـ 34، 9/ 81/ 110و 196ـ 204)
3 هو مسعود بن عمر من أئمة العربية والبيان، له "شرح العقائد النسفية" وغيرها. توفي سنة 793هـ. انظر: الزركلي: الأعلام (7/219)
4 مجلة المنار (8/ 620)
كتاب لوامع الأنوار أساسياً فقد نقل عنه من مسائل العقيدة في الكرامات 1، والمراد بمذهب السلف وذم الكلام 2، وفي القدر 3، وفي الإيمان 4، وقد انتهى الشيخ رشيد من طبع هذا الكتاب أثناء المجلد العاشر من مناره 5.
وعندما أعاد طبع الأجزاء الأولى من مجلة المنار بعد اثني عشر عاماً، علق عليه بعض التعليقات التي يظهر فيها تحوله عن مذهبه الأول 6.
وفي المجلد السابع عشر انتقد السنوسي قائلاً: "ما كتبه السنوسي رحمه الله من العقائد ولا سيما العقيدة الصغرى، التي انتشرت في المشرقين والمغربين وحذا حذوه فيها معلمو المدارس الرسمية وغيرها، حتى فيما يضعونه من العقائد للمبتدئين، وقاعدتها في الإلهيات: أن الواجب على كل مكلف شرعاً انه يؤمن بأنه يجب لله تعالى عشرون صفة، ويستحيل عليه أضدادها، واصطلاحه في هذه الصفات مخالف لما كان يفهمه السلف وأهل اللغة من معنى كلمة:"صفة" ومن إطلاقهم: الإيمان بصفات الله تعالى، فهو يعد الأمور الاعتبارية والعدمية صفات، فالوجود والمخالفة للحوادث ـ أي عدم الاحتياج إلى المكان، والمخصص صفتان لله تعالى عنده ـ والقدرة وكونه تعالى قادراً صفتان متغايرتان ولم ينقل مثل هذا عن أحد من الصحابة ولا التابعين، دع عدم ذكره في القرآن أو في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف نقتصر عليه ونجعله هو العمدة في تلقين عقيدة الإسلام..؟ "7. فهذا النقل يؤيد ما ذهبت إليه ـ من التحول التدريجي ـ للشيخ رشيد إلى مذهب السلف ـ وأكرر
1 انظر: المصدر نفسه (7/ 858)
2 المصدر نفسه (8/ 614)
3 المصدر نفسه (9/ 23 ـ 34)(9/ 81 ـ 110) .
4 المصدر نفسه (9/ 196ـ 204)
5 المصدر نفسه (10/ 145)
6 انظر: مجلة المنار (12/ 685) وانظر: على سبيل المثال: حاشية في (2/ 20) وأيضاً (2/ 13) حاشية و (2/ 18 حاشية) وانظر: مقدمة الطبعة الثانية للمنار (1/ 2)
7 مجلة المنار (17/ 739)