الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حديث أبي بكرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ـ وكان متكئاً فجلس ـ وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" 1
…
وكان صلى الله عليه وسلم يذكر في كل مقام ما تمس إليه الحاجة، فلم يرد شيء من ذلك في مقام الحصر والتحديد، ولكن الأحاديث صريحة في إثبات الكبائر ويقابلها الصغائر والظاهر منها أن كبرها في ذواتها وأنفسها لما فيها من المفسدة والضرر، والموبقات أكبر الكبائر.."2.
وفي ذهاب الشيخ رشيد إلى أن الكبائر وصفت بذلك لشيء في ذاتها، مخالفة لشيخه "محمد عبده" الذي يذهب إلى أن الكبائر هي كذلك بحسب قصد فاعلها، أي لسبب خارجي غير ذاتي 3.
ويظهر أيضاً من هذا النفي أن الشيخ رشيد يرى أن الكبائر لم تحصر في عدد معين، وكما قال أيضاً:"وقال بعضهم: إن الله تعالى أبهم الكبائر لتجتنب كل المعاصي، فإن عرضت له كل معصية لم يعلم أنها من الكبائر التي يعاقب عليها أو من الصغائر التي يكفرها الله عنه بترك الكبائر، فالاحتياط يقضي عليه بأن يجتنبها.."4.
1 البخاري: الصحيح: ك: الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور، ح: 2654 (5/ 462 مع الفتح)
2 تفسير المنار (5/ 47)
3 انظر: المصدر نفسه (5/ 50ـ 51)
4 المصدر نفسه (5/49)
المطلب الأول: تعريف الكبيرة وحكم مرتكبها:
اختلف العلماء رحمهم الله في تعريف الكبيرة على أقوال كثيرة تزيد على عشرين قولاً، وأكثرها متقاربة وبعضها ضعيف 5. وأقرب الأقوال
5 انظر هذه الأقوال عند النووي: شرح مسلم (2/85ـ87) ط. الريان، وابن القيم: مدارج السالكين (1/321ـ 327)، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص:417ـ 418) ط. المكتب الإسلامي، وابن حجر العسقلاني: فتح الباري (10/ 410ـ 411) وابن حجر الهيتمي: الزواجر (1/5ـ10) .
إلى الصواب هو قول ابن عباس رضي الله عنهما أنها: "كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب"1. وممن قال بهذا القول أيضاً: سعيد بن جبير 2، ومجاهد 3 والحسن4، والضحاك 5، 6. ورجح شيخ الإسلام هذا القول7.
وأما الشيخ رشيد فإنه ذكر الأقوال في تعريف الكبيرة ومال إلى أحدها فقال: "..اختلفوا في تعريف الكبيرة فقيل هي كل معصية أوجبت الحد، وقيل ما نص الكتاب على تحريمه ووجب في جنسه حدّ، وقيل: كل محرم لعينه لا لعارض أو لا لسد الذريعة، وضعفوا هذه الأقوال، وأقوالاً أخرى كثيرة، وقال بعض العلماء: إن الكبائر كل ما توعد الله عليه، قيل: في القرآن، وقيل: وفي الحديث أيضاً، وقال بعضهم:.. إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به، وهو قول مقبول قريب من المعقول.."8.
وهذا القول وإن كان مقبولاً وجائزاً إلا أنه غير منضبط، والأولى منه هو ما روي عن السلف وقد ذكرته أول البحث.
1 الطبري: التفسير (8/ 246)
2 سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، أبو محمد الحافظ المقرئ المفسر من كبار التابعين قتله الحجاج سنة 95هـ (السير 4/ 321ـ 343 وتهذيب التهذيب: 4/ 11ـ 14)
3 مجاهد بن جبر ثقة إمام في التفسير والعلم صاحب ابن عباس (التقريب: 921)
4 الحسن هو البصري: ثقة فقيه فاضل مشهور. توفي 110هـ (تقريب: 236)
5 الضحاك هو ابن مزاحم الهلالي، صاحب التفسير، كان من أوعية العلم، ت: 102هـ (الذهبي: السير: 4/ 598، وابن كثير: البداية والنهاية: (9/ 223)
6 انظر: الطبري: التفسير (8/246) ط. دار المعارف، مصر، ت: محمود وأحمد شاكر.
7 انظر: مجموع الفتاوى (11/654ـ 656)
8 تفسير المنار (5/ 49)
المسألة الثانية: حكم مرتكب الكبيرة عند السلف:
يعتقد أهل السنة والجماعة أن من ارتكب كبيرة ـ خلا الشرك ـ ولم يستحلها، فإنه لا يكفر، بل يسمى مؤمناً ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ـ وأن التوبة تجبها ـ وإن مات مصرّاً عليها فهو في مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدرها، ولا يخلد في النار.
قال أحمد:"والكف عن أهل القبلة، ولا نكفر أحداً منهم بذنب ولا نخرجه من الإسلام" 1،وقال البخاري:"..المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا الشرك"2.
وقال الطبري: "إن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، ما لم تكن كبيرته شركاً بالله"3.
المسألة الثالثة: رأي الشيخ رشيد في حكم مرتكب الكبيرة:
يرى الشيخ رشيد أن من قواعد أهل السنة أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بكل ذنب خلافاً للخوارج 4والمعتزلة 5، وهو في رأيه هذا متبع لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد نقل عنه نصاً طويلاً في شرح هذه القاعدة السلفية، كما نقل عنه حكم المجتهد المخطئ في الأصول والفروع 6.
1 السنة (ص: 72) ت: إسماعيل الأنصاري، نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء، بالسعودية.
2 الصحيح: ك: الإيمان (1/ 13) مع الفتح
3 التفسير (8/ 450) وانظر: ابن تيمية: العقيدة الواسطية (ص:233ـ 235) مع شرح محمد خليل هراس.
4 الخوارج: إحدى الفرق المبتدعة، أشغلت الدولة الإسلامية فترة من الزمان، تكفر بالكبيرة. انظر: البغدادي: الفرق بين الفرق (ص: 54) ومصطفى الغرابي: تاريخ الفرق الإسلامية (ص: 41) وغالب العواجي: فرق معاصرة (1/65)
5 أتباع واصل بن عطاء ويسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، والعدل عندهم إنكار القدر، والتوحيد: إنكار الصفات. انظر: البغدادي الفرق بين الفرق (ص: 93) ومصطفى الغرابي تاريخ الفرق الإسلامية (ص:41)، وغالب العواجي: فرق معاصرة (2/821)
6 انظر: مجلة المنار (22/ 121)، وانظر: شيخ الإسلام في: منهاج السنة (5/ 81) وما بعدها.
فقد ذكر الشيخ رشيد هذه القاعدة " لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب" وقال: "هذه القاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة الذين يصدق عليهم هذا القول ـ لا من يسمون أنفسهم بهذا الاسم ليتميزوا من المعروفين بأسماء أخرى.."1. ونقل عن شيخ الإسلام أن ذلك مبني على مسألتين:
" إحداهما: أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقوله الخوارج، بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه كما تقوله المعتزلة.
الثانية: أن المتأول الذي قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفر، ولا يفسق إذا اجتهد وأخطأ.. 2.
وعند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3، قال: "..ومهما أذنب الموحدون فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم، وظلمتها لا تعم قلوبهم، لأنهم بتوحيد الله ومعرفته وعز الإيمان ورفعته يغلب خيرهم على شرهم، ولا يطول الأمد في غفلتهم عن ربهم، بل هم كما قال الله تعالى:{إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 4 يسرعون إلى التوبة، واتباع الحسنة السيئة {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فإذا ذهب أثر السيئة من النفس كان ذلك هو الغفران، فكل سيئات الموحدين قابلة للمغفرة، ولذلك قال تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أي: يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده المذنبين وإنما مشيئته موافقة لحكمته، وجارية على مقتضى سنته.. وأما سنته تعالى فيما لا يغفره من الذنوب فتظهر من المقابلة وتلك هي الذنوب التي لا يتوب منها صاحبها ولا يتبعها بالحسنات
…
" 5.
ولكن المذنب الذي لا يتوب من ذنبه ويموت عليه هو في مشيئة الله
1 مجلة المنار (22/ 121)، وانظر: العقيدة الواسطية (ص: 233)
2 مجلة المنار نفس الصفحة.
3 سورة النساء، الآية (48، 116)
4 سورة الأعراف، الآية (201)
5 تفسير المنار (5/ 149 ـ 150)
تعالى، كما ذكرت عن أهل السنة، وكما هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو ما يحكيه الشيخ رشيد عن أهل السنة الذين يقولون: "إنه لا يخلد في النار إلا من مات كافراً وأما من مات عاصياً فأمره إلى الله وهو بين أمرين: إما أن يعفو الله عنه ويغفر له، وإما أن يعذبه على قدر ذنبه ثم يدخله الجنة لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 2
…
". وهذا القول هو في مقابل قول المعتزلة ومن على رأيهم، "وهؤلاء يقولون: إن مرتكب المعصية القطعية الكبيرة يخلد في النار
…
" 3.
واحتجت المعتزلة على مذهبها بآيات منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} 4. قال الشيخ رشيد عندها: "قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: واستدلت المعتزلة بالآية على إحباط الكبائر للأعمال الصالحة حتى كأنها لم تعمل، وأجيب عن الآية بأن المراد بها لا تبطلوا ثواب صدقاتكم، وبغير ذلك من التكلف الذي لا يُحتاج إليه، لأن الكلام في إحباط المن والأذى للفائدة المقصودة من الصدقة.." 5. ثم قال الشيخ رشيد: "والذي تزعمه المعتزلة هو ان ارتكاب أي كبيرة من الكبائر يبطل جميع الأعمال الصالحة ويوجب الخلود في النار، فاستدلالهم بالآية على هذا إنما يدل على أنهم لم يفهموا هدى الله تعالى في كتابه.." 6.
وبيّن الشيخ رشيد اضطراب أصحاب المذاهب والمقالات في فهم قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فقال:"وقد اضطرب في فهم الآية على بلاغتها وظهورها أصحاب المقالات والمذاهب الذين جعلوا القرآن عضين فلم يأخذوا بجملته ويفسروا بعضه
1 سورة النساء، الآية (48، 116)
2 تفسير المنار (4/ 432)
3 نفس المصدر والصفحة.
4 سورة البقرة، الآية (264)
5 تفسير المنار (3/ 65)
6 المصدر نفسه والصفحة.