الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الربوي بجنسه لما أمر فيه بالكيل والوزن لسد الذريعة أبيح بالخرص عند الحاجة، وغير ذلك كثير في الشريعة.
كذلك هنا: بيع الفضة بالفضة متفاضلًا لما نهي عنه في الأثمان لئلا يفضي إلى ربا النساء الذي هو الربا، فنهي عنه لسد الذريعة، كان مباحًا إذا احتيج إليه للمصلحة الراجحة، وبيع المصوغ مما يحتاج إليه، ولا يمكن بيعه بوزنه من الأثمان، فوجب أن يجوز بيعه بما يقوم به من الأثمان، وإن كان الثمن أكثر منه تكون الزيادة في مقابلة الصنعة»
(1)
.
ويناقش:
مدار هذا الدليل على أن تحريم ربا الفضل إنما كان لسد الذريعة، وما حرم لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة.
هذا القول قاله ابن تيمية عليه رحمة الله تفقهًا وفهمًا، وليس هناك نص من الشارع بأن ربا الفضل تحريمه من باب تحريم الوسائل، وسد الذرائع، ولو تأمل الباحث في النصوص الواردة في ربا الفضل لم يجد ما يدعم هذا الفهم. والفهم غير معصوم، فإذا جاء النص من الشارع على أن المنع إنما كان من باب سد الذرائع سلم الباحث ذلك بلا نزاع، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. فهنا نص الشارع على أن النهي عن سب الأصنام حتى لا يفضي ذلك إلى مفسدة أكبر، وهي سب الذات الإلهية تنزه ربنا وتقدس.
فإذا تأملت نصوص ربا الفضل وجدت أن تحريمه تحريم مقاصد، وأنه محرم تحريم أصالة، وليس محرمًا لغيره.
(1)
تفسير آيات أشكلت (2/ 625 - 629).
(ح-780) لما رواه البخاري، ومسلم من طريق معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت عقبة بن عبد الغافر.
أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: جاء بلال بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر ردي، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أوه أوه عين الربا عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتره به
(1)
.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (عين الربا) وتكرار ذلك، وقوله (لا تفعل) كل ذلك يدل صراحة على أن ربا الفضل تحريمه تحريم مقاصد، وليس تحريمه من باب الوسائل، كما قال بعض أهل العلم والفضل.
قال القاضي عياض في إكمال المعلم: «قوله (عين الربا) أي هو الربا المحرم نفسه من الزيادة، لا ما يشبهه ويغامر عليه»
(2)
.
وقال الحافظ في الفتح: «مراده بعين الربا: نفسه»
(3)
.
وقال العيني في عمدة القارئ: «أي هذا البيع نفس الربا حقيقة»
(4)
.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: «أوه عين الربا. قال أهل اللغة: هي كلمة توجع وتحزن، ومعنى عين الربا: أنه حقيقة الربا المحرم»
(5)
.
(1)
البخاري (2312)، ومسلم (1594).
(2)
إكمال المعلم (5/ 279).
(3)
الفتح (4/ 490).
(4)
عمدة القارئ (12/ 149).
(5)
شرح النووي لصحيح مسلم (11/ 22).
وفي حاشية السندي على النسائي: «أي هذا العقد نفس الربا الممنوعة، لا نظيرها وما فيه شبهتها»
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم عن ربا الفضل كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (ويلك أربيت)
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا كما في حديث أبي هريرة في مسلم (من زاد أو استزاد فقد أربى)
(3)
.
ومن حديث أبي سعيد الخدري في مسلم: من زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء
(4)
.
فإذا كان ربا الفضل هو عين الربا، ومن وقع فيه فقد أربى، والربا له حقيقة شرعية، فإذا قيل: هذا عين الربا لم يكن لمسلم أن يقول: إن ربا الفضل ليس تحريمه تحريم مقاصد.
وكون ربا النسيئة أشد تحريما من ربا الفضل لا يعني أن ربا الفضل ليس من الكبائر، فإنه داخل في جنس الربا وعمومه، ولا يعني أيضًا أن تحريمه من باب سد الذرائع، وآيات وأحاديث الوعيد التي وردت في الربا تصدق على ربا الفضل كما تصدق على ربا النسيئة، لأن الشرع أطلق عليه أنه ربا، وأنه عينه وذاته ونفسه.
وكون العرايا استثنيت منه فلا يعني ذلك أبدًا أن تحريمه من باب تحريم
(1)
حاشية السندي على النسائي (7/ 273).
(2)
صحيح مسلم (1594).
(3)
صحيح مسلم (1588).
(4)
صحيح مسلم (1584).
الوسائل؛ لأن إباحة بيع الرطب بالتمر إنما خص ذلك بالرطب لكونه قوت الناس وطعامهم، والشارع لم يأذن بالفاضل المتيقن في العرايا، وإنما سوغ الشارع المساواة بالخرص من أهل الخبرة بالخرص في مقدار قليل تدعو إليه الحاجة، وهو قدر النصاب خمسة أوسق فما دون، والخرص معيار شرعي للتقدير في أمور كثيرة منها الزكاة، والمالكية يجيزون العمل بالتحري في بيع كثير من الأموال الربوية بعضها ببعض حتى ولو لم تكن من العرايا.
قال الباجي: «وبدل الدنانير بالدنانير، والدراهم بالدراهم على وجهين:
أحدهما وزنًا، والثاني: عددًا. فأما الوزن فلا يجوز فيه إلا التساوي، ولا يجوز فيه زيادة على وجه معروف، ولا بمسامحة ..... وأما المبادلة بالعدد فإنه يجوز ذلك وإن كان بعضها أوزن من بعض في الدينار والدينارين على سبيل المعروف والتفضل، وليس ذلك من التفاضل؛ لأنهما لم يبنيا على الوزن، ولهذا النوع من المال تقديران: الوزن والعدد، فإن كان الوزن أخص به، أولى فيه إلا أن العدد معروف، فإذا عمل به على العدد جوز يسير الوزن زيادة على سبيل المعروف ما لم يكن في ذلك وجه من المكايسة والمغابنة، فيمنع منه. وهذا عندنا مبني على مسألة العرية، وذلك أن العرية لما كان للثمرة تقديران: أحدهما: الكيل، والآخر الخرص، والتحري، جاز العدول عن أولهما إلى الثاني للضرورة على وجه المعروف، فكذلك الدنانير والدراهم»
(1)
.
والاستثناء من المحرم لا يعني أبدًا أن تحريمه ليس تحريم مقاصد، فالشرك أعظم المحرمات، ومع ذلك يباح إذا خاف الإنسان على نفسه.
(1)
المنتقى للباجي (4/ 259).