الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعترض على هذا الاستدلال:
بأن الأحكام لا تناط بالمقاصد، بل يجب ربط الأحكام بمظان ظاهرة، فقد يوجد القصد الفاسد في عقد يتفق الفقهاء على صحته، وقد يعدم القصد الفاسد في عقد يتفق الفقهاء على فساده، فلا نحتكم إلى المقاصد ا لخفية، بل يجب الاعتماد على ظواهر العقود الشرعية
(1)
.
ويجاب عن هذا:
أولًا: لا نسلم أن الأحكام لا تناط بالمقاصد، فالمقاصد والنيات معتبرة في التحليل والتحريم، مقدمة على ظواهر الألفاظ، فإذا كان قصده من هذا العقد محرمًا حرم عليه العقد، وإن كان ظاهر العقد السلامة والصحة.
يقول ابن القيم في ذلك: «هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود، وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها، أم للقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها؟
وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وحرمته بل أبلغ من ذلك وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلا وتحريمًا، فيصير حلالًا تارة، وحرامًا تارة باختلاف النية والقصد كما يصير صحيحًا تارة، وفاسدًا تارة باختلافها وهذا كالذبح فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل، ويحرم إذا ذبح لغير الله وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه، ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوي أن تكون لموكله فتحرم على المشتري، وينوي أنها له فتحل له وصورة العقد واحدة وإنما اختلفت النية
(1)
انظر تكملة المجموع للسبكي (10/ 146).
والقصد وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجل صورتهما واحدة وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة بالقصد وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمرًا معصية ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصره بنية أن يكون خلًا أو دبسًا جائز، وصورة الفعل واحدة وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلمًا حرام باطل؛ لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله، فهو طاعة وقربة ...... وكذلك ألفاظ الطلاق صريحها وكنايتها ينوي بها الطلاق فيكون ما نواه وينوي به غيره فلا تطلق وكذلك قوله:«أنت عندي مثل أمي» ينوي بها الظهار فتحرم عليه وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه وكذلك من أدى عن غيره واجبًا ينوي به الرجوع ملكه، وإن نوى به التبرع لم يرجع.
وهذا كما أنها أحكام الرب تعالى في العقود فهي أحكامه تعالى في العبادات والمثوبات والعقوبات; فقد اطردت سنته بذلك في شرعه وقدره أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره; فإن القربات كلها مبناها على النيات ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقصد ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل، أو دخل الحمام للتنظيف أو سبح للتبرد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له وإنما لامرئ ما نوى ولو أمسك عن المفطرات عادةً واشتغالًا، ولم ينو القربة لم يكن صائمًا ولو دار حول البيت يلتمس شيئا سقط منه لم يكن طائفًا ولو أعطى الفقير هبة أو هدية، ولم ينو الزكاة لم يحسب زكاة ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له. وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب ; ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته أو أمته لم يأثم بذلك وقد يثاب بنيته ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته
للحرام ولو أكل طعامًا حرامًا يظنه حلالًا لم يأثم به ولو أكله وهو حلال يظنه حرامًا وقد أقدم عليه أثم بنيته .... »
(1)
.
وجاء في القواعد لابن رجب: «تعتبر الأسباب في عقود التمليكات، كما تعتبر في الأيمان، ويتخرج على هذا مسائل متعددة، ذكر منها:
هبة المرأة زوجها صداقها إذا سألها ذلك، فإن سببها طلب استدامة النكاح، فإن طلقها فلها الرجوع فيها نص عليه أحمد في رواية عبد الله ....
ومنها ما نص عليه أحمد في رواية ابن ماهان فيمن اشترى لحمًا، ثم استزاده البائع، فزاده، ثم رد اللحم بعيب، فالزيادة لصاحب اللحم؛ لأنها أخذت بسبب اللحم، فجعلها تابعة للعقد في الرد؛ لأنها مأخوذة بسببه، وإن كانت غير لاحقة به»
(2)
.
ثانيًا: بأنه وإن كان هناك خلاف معتبر بين الفقهاء في قاعدة اعتبار المقاصد في الحكم على المعاملات، وقد ناقشت ذلك في مسألة بيع السلاح في الفتنة، والعصير لمن يتخذه خمرًا، فإن مسألتنا هنا قد جاء النص على اعتبار القصد فيها، بالنهي عن بيع العينة، وما جاء النص فيه لا ينبغي إدخاله في مسائل اختلاف الفقهاء في اعتبار المقاصد.
ثالثًا: على التسليم أن الحكم لا يناط بمجرد القصد، فإن الحكم هنا قد أنيط بالقرائن والدلائل الظاهرة، فإن أحدًا لا يبيع العين نسيئة بثمن، ثم يشتري العين نفسها بأقل نقدًا إلا وهو يريد التوصل إلى مبادلة الدراهم بالدراهم، لأن بيعه العين ثم استرجاعها دل على أن بيع العين لم يكن مقصودًا.
(1)
إعلام الموقعين (3/ 89).
(2)
انظر القاعدة: رقم (150)(ص: 321).
(1)
.
رابعًا: وهو أهمها أن الذرائع إلى الحرام حرمها ا لشارع وإن لم يقصد بها الفاعل الحرام خشية أن تفضي إلى المحرم، فإن انضم إلى ذلك قصد الحرام كان ذلك أولى بالتحريم.
(2)
.
خامسًا: لا يحل لمسلم أن يعتقد أن زيد بن أرقم قد واطأ أم ولده على شراء الذهب بالذهب متفاضلًا إلى أجل، فإنكار عائشة له يدل على أن البيع محرم، سواء اتخذ ذلك حيلة إلى مبادلة الربوي بالربوي مع التفاضل والنسأ، أو لم يقصد التحايل.
(1)
عارضة الأحوذي (5/ 201).
(2)
الفتاوى الكبرى (6/ 173).