الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
احترامه، وتقصده الوزراء والوجوه والكبراء، إلى أن توفي حادي عشر رجب سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، ودفن في مدفنه الذي بناه لنفسه في آخر تربة باب الله رحمه الله تعالى.
الشيخ ظاهر باطن الدمشقي الصالحي
كان رجلاً شهماً ذا مروءة ظاهرة، وشهامة باهرة، وأحوال عجيبة، وأمور غريبة. وكان مشهوراً بالكرامات وخوارق العادات، مع لطافة وجمال، واستقامة تدل على حسن الحال، وهو من التغلبيين الذين لهم في الشام شهرة كبيرة، ومناقب هي بكل مدح جديرة. وكان هذا المترجم حسن المعاشرة، جميل المذاكرة، كثير الوداد، بعيداً عن المناكدة والعناد، وكان مقصوداً في تيسير الحوائج، مطلوباً في الدعاء لنوال النتائج، ليس له غلظة ولا فظاظة ولا قباحة في الكلام، ولا مسبة ولا شتم ولا ما يوجب الملام، مع أن طور الجذب يغلب عليه، والناس من كل فج تأتي إليه. مات في سنة ألف ومائتين ونيف وتسعين رحمه الله تعالى.
المرشد الكامل الشيخ ظافر بن محمد حسن بن حمزة ظافر المدني الشاذلي
منبع عين الحقيقة، ومجمع بحري الشريعة والطريقة، إنسان حدقة الفضائل، وترجمان عرفان السادة الأفاضل، وحديثة الهدي والكمال، ومعدن الجود والنوال، من أجمع ذوو التحقيق على علمه وولايته، واجتمع أهل التدقيق على كمال فهمه ودرايته، ورفع الدهر قدره فأجله، وعرف ضده فأهانه وأذله، وخدمته السيادة فكانت له عبداً، ولاحظته العناية
فأفرغت في رعايته جهداً. ولم يزل يتنقل مقامه، ويترقى قدره ومقامه، إلى أن دعته الحضرة السلطانية، للإقامة بمدينة القسطنطينية، وبيان ذلك على طريق الإجمال لا على التفصيل، المؤدي إلى الخروج عن المقصود وارتكاب التطويل، إنني كتبت لحضرته وهو في الآستانة العلية، أن يرسل لي ترجمته السنية، فأجاب وما ضن ومن علي بها وما من، وأنبأني بأنه ولد في شعبان المبارك سنة أربع وأربعين ومائتين وألف، بمسراته من أعمال طرابلس التي دفن بها والده المجمع على كماله من غير خلف، فنشأ في حجر والده إلى أن شب، وكان له كمن طب لمن حب، ثم قال: فعلمني القرآن إلى أن أتقنته، ثم علمني من أنواع العلوم إلى أن ظننت أن ما تعلمته أحسنته، ثم أخذ يؤدبني بآداب السنة، إلى أن وجد نفسه الشريفة لإعطائي الطريق مطمئنة، فاستخار الله واستهداه، وغب أن حصل له الإذن بما يهواه، أخذ يدي بطريق المصافحة وتلا قوله تعالى " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " إلى آخر الآية ثم تلا: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " الآية ثم لقنني لا إله إلا الله وقال لي اذكرها من غير قيد ولا عدة تتكاثر عليك الفيوضات، ويتقوى لك بفضل الله المدد. وكان رضي الله عنه يحبني محبة كاملة زائدة عما تقتضيه شفقة الأبوة، ولا زال يؤهلني لكل أمر ذي بال، ويمدني بهمته الجامعة لأنواع الكمال، ثم ألبسني الخرقة المباركة، وهي جبة صوف من لباس المغرب، وقد ثقل علي لبسها حتى صرت أختفي من الناس مدة، إلى أن حصل لي بهمته تمام الأنس بها، ولا زالت على ظهري ثلاث سنين، ثم أمرني أن أتلون في اللباس، ثم أتيته وطلبت منه أن يلقنني الاسم الخاص، فأمهلني أياماً إلى أن تحقق مني صدق طلبي له أخذ بيدي ولقنني إياه، وقال لي اذكره يفتح الله عليك عن قريب إن شاء الله، فكنت
أذكره دائماً مستغرق الوقت فيه، وكلما خطر بقلبي شيء أبديته له، ولا زلت كثير الشكوى لديه، غزير التململ بين يديه، إلى أن قال لي مرة: ليس المطلوب بكثرة الأذكار والأوراد، إنما هو بنظرة الأستاذ بعين العناية والإمداد. وشكوت له مرة كثرة الوسواس والأفكار حالة الذكر، فقال لي رضي الله عنه لا بأس عليك لأنها ترد على كل ذاكر ولا تضره. وشكوت له مرة أخرى من الوهم، فقال لي هو باطل، واستشهد لي بقول القائل:
فأفنيتها حتى فنت وهي لم تكن
…
ولكنني بالوهم كنت أطالع
ثم بعد ذلك أمرني رضي الله عنه بالسياحة إلى تونس، ثم بعد السياحة عدت إليه، فقال لي الآن صرت أخي ومريدي وابني، فأعطني حق ذلك وأنا كذلك أعطيك حق الأخوة بحيث لا أعمل شيئاً بغير استشارتك، فبكيت وبكى رضي الله عنه. وكنت في بعض الأيام جالساً عنده مع بعض خواص الإخوان، فأتاه إنسان برطبتين باكورة، فأخذهما وأطعمنيهما وقال لي انو ما شئت يحصل إن شاء الله تعالى، فبعد ذلك رأيته في منامي كأنه جالس رضي الله عنه بقرب منهل، ومعه جمع غفير من التلامذة، وأنا من جملتهم، فرأيت أخوتي يتزاحمون على الماء، فقال رضي الله تعالى عنه: أيكم يسقي أولادي، فأردت أن أسرع لمرادي، ثم قلت هذه مزية أوثر بها التلامذة، فما قام أحد، ثم كرر القول ثانياً وثالثاً، فقمت وسقيتهم واحداً واحداً حتى رووا، فقام رضي الله تعالى عنه ودخل بي إلى محل فيه خزانة ففتحها وأخذ منها علبة، وأخرج منها وعاء فيه حلوى بيضاء، فأخذ على إصبعه وقال لي افتح فاك فناولني ذلك، فما وجدت أحلى ولا ألذ منها، وما فضل على إصبعه مسحه على صدري، فخرجت لي منه رائحة عظيمة ما رأيت أطيب منها.
ثم قيل إن حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المجلس، فطلعت، فلما انتهيت إلى المجلس وجدته نائماً وهو لابس رداء من صوف في غاية الحسن، فظهرت لي قدماه الشريفتان يعلوهما نور ساطع متصل بسقف المجلس، فقلت الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، فقال وعليك السلام، وجلس متربعاً، فرأيت بجنبي أحد الأحبة، فقال صلى الله عليه وسلم مرحباً بكم، ورفع جناحيه الكريمتين، وأشار لنا بالدخول تحت جناحه الأيمن، وضمني إلى جانبه فغشيني طيب روائحه، وأنعشني لطيف فوائحه صلى الله عليه وسلم، الحمد لله والشكر لله. ثم في الصباح أتيت الأستاذ رضي الله تعالى عنه وقصصت عليه ذلك، فقال لي هنيئاً لك واستوص بإخوتك خيراً فإنهم أمانة الله عندك انتهى.
ثم أنه بعد وفاة والده الأستاذ، ومرشده العمدة الملاذ، انتهت إليه رياسة الإرشاد، وطار صيته إلى أقصى البلاد، وانتفع به أهل المشرق والمغرب، ولسان العموم عن بعض فضائله يعرب. وفي سنة ثمان وستين توجه إلى الحجاز، ورجع إلى فزان وتونس سائحاً داعياً إلى الله، ثم في سنة ثلاث وثمانين توجه إلى الحجاز، ورجع إلى طرابلس الغرب، وفي سنة ثمان وثمانين عاد إلى الحجاز من طريق الآستانة العلية، وفي هذه المرة أخذ عنه الطريق حضرة السلطان الأعظم، والخاقان الأفخم، السلطان عبد الحميد خان، وذلك قبل أن يتولى أمر الملك، ثم توجه إلى طرابلس وتونس. وفي سنة إحدى وتسعين قبل خلع السلطان عبد العزيز بمدة يسير، ومن بعدها لم يأذن له السلطان عبد الحميد بالخروج من الآستانة لكثرة محبته له وأنسه بجماله واعتقاده بكماله، واجتماعه معه على الذكر والمذاكرة، وعلى المفاكهة الأدبية والمحاضرة، ولم يزل يعلو مقامه،
ويسمو احترامه، ولا يزال إن شاء الله في رفعة عالية ونعمة نامية. وفي عام ألف وثلاثمائة وخمسة أنشأ له حضرة السلطان المذكور داراً عظيمة مع تكية للإخوان الشاذلية، وكان يكاتبني في بعض الأحيان، ويخاطبني مع رفعة مقامه خطاب الإخوان، بعبارات فائقة، ومعان رائقة، دالة على أنه بلغ ما أراد، من العلم والعرفان والإرشاد، ومرة جاوبته عن كتاب أرسله وجعلت له هذه القصيدة مع الجواب، وهي:
ما كنت أعرف ما الهوى لولاكا
…
لا والذي أولى البها أولاكا
يا فاتني كف الجفا عن مغرم
…
مضنى وعامل بالجميل فتاكا
أنا ذلك الخل الوفي بعهده
…
هل خلت يا بدر الدجى انساكا
ما شئت فاصنع بي فما لي ملجأ
…
إلا إليك لأنني مولاكا
واهاً لمن من طرف دخل البلا
…
ء لجوفه من نظرة تلقاكا
من لي بأن ترضى بروحى والحشا
…
وبمهجتي يا منيتي وأوراكا
لم يثنني عنك النحول ولا الضنى
…
فبما ترى عني العذول ثناكا
قد ضاق بي رحب الفضا وقد انقضى
…
عمري ولم أظفر بغير جفاكا
يا عاذلي كف الملام فإن لي
…
قلباً يسوم من الهوان هلاكا
أو ما دريت بأنني فيه أرى
…
عذباً عذابي لا أروم فكاكا
ذلي له عز واضلالي هدى
…
وأرى الملام بحبه إشراكا
أسرفت في لومي ولا أصغي ولو
…
كان الحبيب بصبه فتاكا
لو شمته والشعر منسدل على
…
أردافه ما كنت تنكر ذاكا
أو لو بدا فجر الهدى من وجهه
…
لسلا حشاك وضل فيه حجاكا
أو لو تثنى تائهاً بقوامه
…
أزرى الغصون بميله وسباكا
سلم لنا واسلم فآية حسنه
…
ما زاغ عنها مبصر إلاكا
يا لائمي كن راحمي فإلى متى
…
أعلي من أهواه قد ولاكا
حتى سعيت بما سعيت به ولم
…
تذر العناد ولم تراع أخاكا
حسبي الوذ بسيد ساد الورى
…
ورقى وخلف دونه الأفلاكا
حبر الهدى بحر الندى حصن الردى
…
بشر ولكن أشبه الأملاكا
بدر السعادة في سماء سيادة
…
فاقصده تحمد في الصباح سراكا
إن لاذ راجيه بكعبة عزه
…
قالت له العليا جعلت فداكا
يمم حماه أن ترم فيض الندى
…
تلقى جواداً بالمنى لباكا
يا صاحبي قم بي نؤم رحابه
…
ودع السوى واغنم لديه رجاكا
هذا الهمام ابن الهمام أبو الندى
…
يهدي السبيل ويرشد النساكا
هذا الإمام ابن المداني ظافر
…
فاظفر به وعداه دعه وراكا
هذا هو القطب الرفيع مقامه
…
حدث ولا حرج عليك بذاكا
لا عيب فيه سوى الكمال وإنه
…
ذو راحة لم تعرف الإمساكا
يا سيداً ما زال طرفي يحسد السمع الذي أحياه ذكر حلاكا
أترى أفوز ببغيتي والدهر يسعدني وقبل منيتي ألقاكا
يهنيك جددت المآثر بعدما
…
درست وحان هوانها لولاكا
ورعاك بالإقبال مولانا أمير المؤمنين وللصعود دعاكا
عبد الحميد مليكنا قطب الورى
…
لا زال مبغضه يسوم هلاكا
عذراً لرق راق فيك مديحه
…
لم يبغ غير شموله برضاكا
فاقبل فديتك من أسير عبودة
…
عذراء تشدنا ببعض ثناكا
تمشي على استحيائها لقصورها
…
قد أرخت طب ظافراً بمناكا
هذا وإن حضرة المترجم يحق له أن تفرد بشمائله الأسفار، ولولا الخروج عن المقصود لأطلت في ترجمته، ولكنه نظراً لأسلوب الكتاب لا بد من الاقتصار، حفظه الله على الدوام، وسهل له كل مرام، ثم أنه في سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة تمرض ودعاه داعي السعود إلى جنة الخلود، ودفن في الآستانة رحمه الله تعالى.