الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذهب إلى الحمام وهنأه الناس بالعافية، وذهب إلى جيرانه يتحدث عندهم كعادته، فخرج ليلة الجمعة الثاني من شهر صفر ودخل عند عثمان بن سلامة السناري، فتحدث عندهم حصة من الليل، ثم قام ذاهباً إلى داره ماشياً على أقدامه حتى وصل إلى داره ومضى نحو ساعة، وقد جامع زوجته واضطجع فحركوه فإذا هو ميت فجهزوه وصلي عليه في الأزهر ودفن عند الشيخ الحفني بجانب قبره، فسبحان الحي الذي لا يموت، وكان عمره نحواً من خمس وسبعين سنة.
وحاصل أمر المرحوم المترجم أنه كان من فحول العلماء يدرس الكتب الصعاب في المعقول والمنقول، بالتحقيق والتدقيق، وانتفع عليه الكثير من الطلبة إلى أن صاروا مدرسين مميزين على أقرانهم من أهل العصر، ولو أنه استمر على طريقة أهل العلم السابقين وبعض اللاحقين، ولم يشتغل بالانهماك على الدنيا وكثرة المداخلة مع الأكابر وذوي الحكومة، لكان نادرة عصره ونقطة مدار مصره، ولكن ذلك أداه إلى قطع الاشتغال، حتى أنه إذا ابتدأ كتاباً كان في الغالب لا يتمه، ولا ألف كتاباً ولا رسالة في فن من الفنون مع كمال أهليته لذلك. ثبت الله قلوبنا على التقوى وحفظنا من كل تقصير في السر والنجوى، وعصمنا والمسلمين مما يضر ويشين.
الشيخ محمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد العزيز المالكي الأزهري الشهير
بالأمير الكبير
العالم العلامة الفاضل الفهامة، صاحب التحقيقات الرائقة والتأليفات الفائقة، شيخ شيوخ أهل العلم وصدر صدور أهل الفهم، المتفنن في العلوم كلها، نقليها وعقليها وأدبيها. إليه انتهت الرياسة في العلوم بالديار
المصرية، وباهت مصر ما سواها بتحقيقاته البهية. استنبط الفروع من الأصول، واستخرج نفائس الدرر من بحور المعقول والمنقول، وأودع الطروس فوائد وقلدها عوائد وقرائد.
وشهرته بالأمير إنما جاءته من جده الأدنى أحمد، وسببه أن أحمد وأباه عبد القادر كان لهما أمرة بالصعيد، وأخبر المترجم عن نفسه أن أصلهم من المغرب، نزلوا بمصر عند سيدي عبد الوهاب أبي التخصيص كما أخبر عن ذلك وثائق لهم. ثم التزموا بحصنه بناحية سنبو وارتحلوا إليها، وقطنوا بها وبها ولد المترجم. وكان مولده في شهر ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومائة وألف بإخبار والديه، وارتحل معهما إلى مصر وهو ابن تسع سنين وكان قد ختم القرآن فجوده على الشيخ المنير على طريقة الشاطبية والدرة، وحبب إليه طلب العلم، فأول ما حفظ متن الآجرومية وسمع سائر الصحيح والشفاء على سيدي علي بن العربي السقاط، وحضر دروس أعيان عصره، واجتهد في التحصيل، ولازم دروس الشيخ الصعيدي في الفقه وغيره من كتب المعقول، وحضر على السيد البليدي شرح السعد على عقائد النسفي، والأربعين النووية، واستمع الموطأ على هلال المغرب وعالمه الشيخ محمد التاودي بن سودة بالجامع الأزهر سنة وروده بقصد الحج، ولازم المرحوم حسنا الجبرتي سنين، وتلقى عنه الفقه الحنفي وغير ذلك من الفنون كالهيئة والهندسة والفلكيات والأوفاق والحكمة، بواسطة تلميذه الشيخ محمد بن إسماعيل النفراوي المالكي، وكتب له إجازة مثبتة في برنامج شيوخه، وحضر الشيخ يوسف الحفني في آداب البحث وبانت سعاد، وعلى الشيخ محمد الحفني أخيه مجالس من الجامع الصغير والشمائل والنجم الغيطي في المولد، وعلى الشيخ أحمد الجوهري في شرح الجوهرة للشيخ عبد السلام، وسمع منه المسلسل بالأولية، وتلقى عنه طريق الشاذلية من سلسلة مولاي عبد الله الشريف، وشملته إجازة الشيخ الملوي، وتلقى
عنه مسائل في أواخر أيام انقطاعه بالمنزل، ومهر وأنجب وتصدر لإلقاء الدروس في حياة شيوخه، ونما أمره واشتهر فضله، خصوصاً بعد موت أشياخه، وشاع ذكره في الآفاق وخصوصاً بلاد المغرب، وتأتيه الصلات من سلطان المغرب وتلك النواحي في كل عام، ووفد عليه الطالبون للأخذ عنه والتلقي منه، وتوجه في بعض المقتضيات إلى دار السلطنة، وألقى هناك دروساً حضره فيها علماؤهم، وشهدوا بفضله واستجازوه فأجازهم بما هو مجاز به من أشياخه.
وصنف عدة مؤلفات اشتهرت بأيدي الطلبة وهي في غاية التحرير، منها مصنف في فقه مذهبه سماه المجموع حاذى به مختصر خليل، جمع فيه الراجح في المذهب وشرحه شرحاً نفيساً، وقد صار كل منهما مقبولاً في أيام شيخه العدوي، حتى كان إذا توقف شيخه في موضع يقول هاتوا مختصر الأمير، وهي منقبة شريفة، وشرح مختصر خليل، وحاشية على المغني لابن هشام، وحاشية على الشيخ عبد الباقي على المختصر، وحاشية على الشيخ عبد السلام على الجوهرة، وحاشية على شرح الشذور لابن هشام، وحاشية على الأزهرية، وحاشية على الشنشوري على الرحيبة في الفرائض، وحواش على المعراج، وحاشية على شرح الملوي على السمرقندية، ومؤلف سماه النيرين فيما يتعلق بالقدرتين، وإتحاف الإنس في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس، ورفع التلبيس عما يسأل به ابن خميس، وثمر الثمام في شرح آداب الفهم والإفهام، وحاشية على المجموع، وتفسير سورة القدر. ومن نظمه قوله متغزلاً:
أيها السيد المدلل ضاعت
…
في الهوى ضيعتي وأنسيت نسكي
يا لك الله لا تمل لسوائي
…
وتحكم ولو بما فيه فتكي
وانظر الحق في علو غناه
…
كل شيء يمحوه غير الشرك
يا حسن لون الشمس عند غروبها
…
في روض أنس نزهة للأنفس
فكأنه وكأنه في ناظري
…
ذهب يجول على بساط سندس
وله أيضاً
تخيلت أن الشمس والبحر تحتها
…
وقد بسطت منها عليه بوارق
مليح أتى المرآة ينظر وجهه
…
ففي وجهها من وجهه الضوء دافق
وله أيضاً:
يا مالك القلب من بين الملاح وإن
…
توهم الغير أن القلب مشترك
إني أغار على حظي لديك فغر
…
أيضاً على قلب صب فيك مرتبك
وقل لهم ينتهوا عما تسوله
…
نفوس سومهم طرق الردى سلكوا
توهموا أنهم حلوا وقد ملكوا
…
ويعلم الله ما حلوا وما ملكوا
يا سيد الكل يا قطب الجمال ومن
…
في دولة الحسن يروى أنه الملك
ما كان قلبي يهوى الغير يا أملي
…
فابعث رميمي إذ أهل الهوى هلكوا
واسقط البين وارفع حجب شأنك لي
…
ليشتفى خاطر الفكر يعترك
بلطف ذاتك لا تقطع رجاء فتى
…
على عيوب له بالعهد يمتسك
وله أيضاً
دع الدنيا فليس بها سرور
…
يتم ولا من الأحزان تسلم
ونفرض أنه قد تم فرضاً
…
فغم زواله أمر محتم
فكن فيها غريباً ثم عبي
…
إلى دار البقا ما فيه تغنم
وإن لا بد من لهو فلهو
…
لشيء نافع والله أعلم
وله غير ذلك من النظم المليح والذوق الصحيح، واللسان الفصيح، وكان رحمه الله رقيق القلب لطيف المزاج، ينزعج طبعه من غير انزعاج، يكاد الوهم يؤلمه وسماع المنفر يوهنه ويسقمه. ولا زال تضعف قواه وتتراخى أعضاه وتزيد شكواه، ويتراخى ويتعلل ويزداد أنينه ومرضه ويتحمل،