الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في داره الصفا آمنا من كدر السحب والشفق، أنه لهو البليغ الذي أتى بالكلم المعجز السمين، والفصيح الذي لم يعارض لمعانيه ما يخل ولا يشين. فمن بديع كلامه وبديه نظامه، قوله:
أحب العذول لتكراره
…
حديث الحبيب على مسمعي
وأهوى الرقيب لأن الرقيب
…
يكون إذا كان حبيبي معي
ومن هذا المعنى قول الأديب أحمد بن القاسم الجداوي:
من أجل ذكرك لذّ لي التفنيد
…
قل للوائم في الملامة زيدوا
أهوى اللوائم كالرقيب فرؤيتي
…
وجه الرقيب لرؤيتي لك عيد
من ذا رأى صبا يحب عذوله
…
ورقيبه ويرى هو المحمود
ومن كلامه:
تزايد بي الأنين فليت شعري
…
أأحبابي بما ألقاه تدري
فكم آه يصعدها فؤادي
…
ويشفعها بآه الموت صدري
ومنها:
فساعات التداني من حبيب
…
ألذ لدي من نغمات زمر
ولا شيء يعادل ذاك أصلاً
…
إذا ما كان وصلاً بعد هجر
وهي قصيدة طويلة، سوى أن الكاتب قد حرفها فتركت بقيتها. مات رحمه الله أوائل القرن الثالث عشر.
الشيخ محمد الكزبري بن الشيخ عبد الرحمن الدمشقي الشافعي قال السيد محمد
عابدين:
مدرس الحديث الشريف تحت قبة النسر في جامع بني أمية في دمشق المحمية، نفعنا الله تعالى بصالح دعواته وأعاد علينا من بركاته، وأدام به النفع العميم أنه جواد كريم. ولد في ثالث عشر شعبان سنة ألف ومائة وأربعين ونشأ في جحر والده جامعاً لطارف مجده وتالده،
مرتضعاً من ثديه لبان العلوم، محلياً جيده من دره المنظوم، مع عفة وصيانة وورع وديانة، وتقوى وعفاف وحلم وإنصاف. وتفقه عليه وعلى خال والده الإمام الشهير الشافعي الصغير، الشيخ علي بن أحمد الكزبري وأخذ الحديث عنهما وعن العلامة الشهاب أحمد المنيني، ثم لزم الإمام العلامة الثاني علي أفندي الداغستاني، وقرأ عليه في أنواع العلوم من معقول ومنقول، وفروع وأصول، والعلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن جعفر الكردي وغيرهما حتى نبه ونبل وتجمل واكتمل، وفاق أقرانه وشرف زمانه. ولم يزل مثابراً على تعلم العلم وتعليمه وتوضيحه وتفهيمه، مكباً على الطاعات والعبادات مثابراً عليهما في جميع الأوقات، محباً للمساكين والفقراء والمنتمين إلى السادة الكبراء، كثير الصدقات والمبرات، متواضعاً للصغير والكبير، لين الجانب للعظيم والحقير. ذا هيبة ووقار يعلو وجهه نور أهل الآثار، كثير البكاء والخوف من مولاه، أماراً بالمعروف نهاء عن المنكر لا يخشى لومة لائم في الله. محيياً لبقع المدارس والمساجد بالدروس والعبادات، وأنواع الطاعات، ذا إتقان وتحقيق وترقيق وتدقيق، بذهن سيال ولسان فصيح المقال، مقصوداً من جميع الجهات والأقطار، مشهوراً بها كالشمس في رابعة النهار. قد انتفع به الجم الغفير والخلق الكثير، من قاطنين وأغراب، قد ارتكبوا لأجله غارب الاغتراب، حتى أنه لم يوجد الآن في دمشق من طالب، إلا وهو من فيض بحره كارع وشارب.
وهو إمام دمشق الكبير وكوكبها الذي به تنير. حج مرتين الأولى سنة ألف ومائة وثمان وتسعين، والثانية عام ألف ومائتين وعشرة. وكان والده قد أذن له بإفادة الطالبين في حياته، وجلس مكانه بين العشائين
في الأموي سنة ألف ومائة وخمس وثمانين بعد وفاته، فأقرأ في ذلك الوقت كتباً عديدة يأتي ذكرها، آخرها صحيح مسلم، قرأ منه نحو الثلثين، ثم قطع لضعف عرض له في بصره، ثم أتمه في داره.
وكانت عليه وظيفة التدريس في مدرسة سليمان باشا العظم، فأقرأ فيها كتباً كثيرة، منها صحيح مسلم وسنن أبي داود وتفسير البيضاوي والتحفة على المنهاج وغير ذلك.
وفي سنة عشر جاءته قبة النسر تسعى من غير طلب وفوق منبرها بلبل فصاحته خطب. فشرع بقراءة الجامع الصحيح، ورشح جيد الفضلاء بأجيد توشيح، وأنار مصابيح الجامعين، وأبدى ما تشنف به الآذان وتقر به العين. وهو في الثلاثة أشهر رجب وشعبان ورمضان من كل عام. وكان درساً عظيماً جامعاً لكل خاص وعام، مضماراً لفرسان أذهان الأعلام، وقد أشرت إلى ذلك في ضمن موشحة كنت تطفلت بها على مدح جنابه، والوقوف في أبوابه وأعتابه. حيث قلت:
من به قبة ذاك الجامع
…
لم تزل في كل عام تسعد
حين يروي في الصحيح الجامع
…
لحديث المصطفى أو يسند
يا له من خير درس جامع
…
ولأهل العلم فيه مشهد
فكأن الوجه منه حينما
…
ينثر الدر على الملتمس
قمر عن جانبيه العلما
…
كنجوم أشرقت في الغلس
وقد وصل الآن فيه إلى باب الشهادات، وذلك مقدار ثلث الكتاب توفي رضي الله تعالى عنه ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف في داره الكائنة في محلة الشاغور، وصلى عليه ولده ضحوة النهار من ذلك اليوم في الجامع الأموي المعمور، ودفن بتربة باب الصغير.