الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال: يا رسول الله آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منا قليل، فأنزل الله عز وجل:" ثلة من الأولين وثلة من الآخرين "، فدعا رسل الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وقال له: قد أنزل الله فيما قلت، فقال عمر رضي الله عنه رضينا عن ربنا وصدقنا نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من آدم إلينا ثلة، ومنا إلى يوم القيامة ثلة، ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله. ومثل ذلك في تفسير الخطيب الشربيني وفي التفسير المسمى بالدر المنثور للجلال السيوطي أن عروة بن رويم يروي هذا الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحديث المذكور
أيضاً رواه ابن مردويه وابن عساكر، لكن اللفظ الذي ذكره في الدر المنثور قال في آخره: وأمتي ثلة، ولن تستكمل ثلتنا حتى نستعين بسودان من رعاة الإبل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فيحتمل أن المراد من السودان هؤلاء القائمون مع محمد أحمد وعثمان ذقنه، ويحتمل أن يكون غيرهم والله أعلم بغيبه. وكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من وقوعه، وروى ابن مكرم الإفريقي في كتاب له سماه لسان العرب حديثاً لم يذكر من خرجه وقال فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج في آخر الزمان رجل يسمى أمير الغضب، أصحابه محسرون محقرون مقصون عن أبواب السلطان ومجالس الملوك، يأتونه من كل أوب كقزع الخريف يورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها فيمكن أنهم هؤلاء السودان القائمون مع محمد أحمد أو غيرهم. أيضاً رواه ابن مردويه وابن عساكر، لكن اللفظ الذي ذكره في الدر المنثور قال في آخره: وأمتي ثلة، ولن تستكمل ثلتنا حتى نستعين بسودان من رعاة الإبل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فيحتمل أن المراد من السودان هؤلاء القائمون مع محمد أحمد وعثمان ذقنه، ويحتمل أن يكون غيرهم والله أعلم بغيبه. وكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من وقوعه، وروى ابن مكرم الإفريقي في كتاب له سماه لسان العرب حديثاً لم يذكر من خرجه وقال فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج في آخر الزمان رجل يسمى أمير الغضب، أصحابه محسرون محقرون مقصون عن أبواب السلطان ومجالس الملوك، يأتونه من كل أوب كقزع الخريف يورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها فيمكن أنهم هؤلاء السودان القائمون مع محمد أحمد أو غيرهم.
مباحث في المهدي المنتظر
وقد ذكر كثير من العلماء الذين ألفوا رسائل في ظهور المهدي وعلاماته أن من علامات ظهوره خروج السودان، منهم الجلال السيوطي والعلامة
ابن حجر والعلامة المتقي والعلامة السيد محمد بن رسول البرزنجي في كتابه المسمى بالإشاعة في أشراط الساعة، ففي رسالة الجلال السيوطي المسماة بالعرف الوردي في علامة المهدي، حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه: إذا خرجت السودان طلبت العرب ينكشفون حتى يلحقوا ببطن الأردن أو ببطن الأرض، فبينما هم كذلك إذ خرج السفياني في ستين وثلاثمائة راكب حتى يأتوا دمشق، فلا يأتي عليهم شهر حتى يبايعه من كلب ثلاثون ألفاً. والأحاديث التي جاء فيها ذكر السقياني كثيرة شهيرة والكلام عليها طويل، وهو يريد قتال المهدي عند ظهوره، ثم يخسف بجيش السفياني ويهلكه الله تعالى. وفي رسالة ابن حجر المسماة بالقول المختصر في أخبار المهدي المنتظر، أن من علامات ظهور المهدي ألوية قبل من المغرب، وأن خروج أهل المغرب إلى مصر من أمارات خروج السفياني، وذلك إنما يكون عند ظهور المهدي، وجه السودان بالنسبة إلى مصر مغرب، فيحتمل أنهم هؤلاء القائمون مع محمد أحمد، ويحتمل أن يكون المراد غيرهم، وكذا قوله خروج أهل المغرب إلى مصر يحتمل أن يكونوا هؤلاء لأنه يصدق على الجهة التي ظهروا منها أنها من المغرب بالنسبة لمصر، ويحتمل أن يكونوا غيرهم، والله أعلم بأسرار غيبه وأسرار أحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن علامات ظهور المهدي الرايات السود التي تخرج من خراسان، وجاء فيها أحاديث كثيرة، قال في الإشاعة: يمكن أنها هي التي خرجت في زمن المهدي العباسي بن المنصور، ويحتمل أنها أيضاً تخرج عند ظهور المهدي المنتظر. وفي شرح الشجرة النعمانية تبقى قوتها وسلطنتها إلى ظهور المهدي، وأنهم يكونون من أعوانه وأنصاره بأنفسهم وأموالهم وخزائنهم وعساكرهم وآلاتهم وعددهم، فيجب الدعاء للدولة العثمانية على
كل مسلم والذي يقاتلهم يكون باغياً خارجاً عليهم، فالواجب على كل مسلم السعي في تشييد دولتهم وتثبيت قواعدها، وإهانتهم في إظهار الشريعة وإحياء السنن وإماتة البدع، والدعاء لهم بالتوفيق، فنسأل الله تعالى أن يوفقهم لكل خير وأن يلهمهم كمال الرشد والصلاح، وكذا سائر وزرائهم وقضاتهم وعمالهم.
ثم إن هذا القائم بالسودان وهو المسمى محمد أحمد إما أن يكون باغياً خارجاً على السلطان فيجب قتاله وإن لم يدع أنه المهدي، ويمكن أن الله أقامه لإخراج الإنكليز من مصر إعانة للدولة العثمانية ولا يريد الخروج على السلطان وإنما يريد أن يكون من جملة رعايا الدولة العثمانية ثم يكون لإعانة المهدي؛ ويؤيد ذلك ما ذكره الجلال السيوطي في رسالته التي ألفها في علامات المهدي، فإنه ذكر فيها حديثاً أخرجه نعيم بن حماد عن أبي قبيل قال: يكون أمير بإفريقية اثنتي عشرة سنة ويكون بعده فتنة، فيملك رجل يملؤها عدلاً، ثم يسير إلى المهدي فيؤدي إليه الطاعة ويقاتل عنه، فيمكن أنه هو هذا الرجل المسمى محمد أحمد ويمكن أنه غيره والله أعلم بأسرار غيبه. وقيل إن الذين يشيعون أنه هو المهدي إنما هم بعض أتباعه ليرغبوا عامة الناس في اتباعه والدخول في طاعته، وأما هو فإنه لم يدع أنه المهدي، بل قال بعض من اجتمع به أنه سمع منه بلا واسطة أنه يقول: إني لست أنا المهدي المنتظر وإنما أنا قائم لإظهار الحق وإقامة الشريعة، وأما أن ثبت أنه يدعي أنه هو المهدي المنتظر فالأمر مشكل، لأن المهدي المنتظر لا يدعي أنه المهدي ولا يطلب البيعة لنفسه ولا يقاتل الناس لتحصيلها ولا يبايع إلا وهو مكروه، بل لا يبايع الناس حتى يتهددوه بالقتل وذلك أن الله يطلع بعض من اختصه من صالحي عباده وعلى علاماته، فيدلون الناس عليه فيطلبونه فيفر منهم مراراً، ثم يمسكونه ويكرهونه على البيعة ويتهددونه بالقتل،
ولا يكون ظهوره والبيعة له إلا والناس بلا خليفة، أخذاً من حديث: يحصل اختلاف عند موت خليفة وهو أصح حديث روي في هذا الباب، وأما الآن فالناس لله الحمد لهم خليفة وهو أمير المؤمنين مولانا السلطان عبد الحميد بن المرحوم مولانا السلطان عبد المجيد، وبيعته في أعناق المسلمين، وسلسلة سلطنته من أحسن الدول الإسلامية مقيمين للشريعة السنية، محبين للصحابة وأهل البيت، ناصرين أهل السنة المحمدية قامعين أهل البدعة الردية، فلا يجوز خلع بيعته ولا الخروج عن طاعته، ثبت الله دولته وأبد سلطنته، فمن خلع بيعته أو ترك طاعته أو خرج عليه فهو باغ معتد. وأيضاً من علامات المهدي المنتظر أن يكون من ولد فاطمة رضي الله عنها، وأن يكون ظهوره والبيعة له بمكة بين الركنين، ولا يصح أن يكون ظهوره والبيعة له بغير مكة، قال الجلال السيوطي في آخر العرف الوردي في علامات المهدي: وأما قول القرطبي أن ظهور المهدي يكون من المغرب فهو باطل، وقد تبع السيوطي على ذلك العلامة العلقمي والعلامة الصبان في رسالته التي ألفها في علامات المهدي، فكل منهما قال كما قال السيوطي، أن قول القرطبي أن ظهور المهدي يكون بالمغرب باطل، وقال بعضهم يمكن حمل كلام القرطبي على غير المهدي المنتظر، فإن كثيراً ممن ادعى نفسه أنه المهدي وكان ظهورهم بالمغرب، كمحمد بن تومرت وعبيد الله العبيدي جد ملوك إفريقية ومصر، وخلق كثير غير هذين ادعى كل واحد منهم أنه المهدي بالمغرب وغيره، وذلك لأن المهديين متعددون والمهدي المنتظر واحد، وهو الذي يكون من ولد فاطمة ويكون ظهوره بمكة، والناس بلا خليفة، ويبايع مكرهاً ولا يطلب البيعة لنفسه ولا يقاتل الناس لتحصيلها، ويكون في زمنه خروج المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام، ويجتمع به. ومما يدل على أن المهديين متعددون والمهدي المنتظر واحد، ما ذكره العلامة ابن حجر
في الصواعق المحرقة لأهل الضلال والزندقة، حيث قال حاكياً لقول من قال أن المهدي من ولد العباس، وهو والد هارون الرشيد واسمه محمد المهدي بن عبد الله المنصور بناء على الأحاديث المذكور فيها أن المهدي من ولد العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أنه من أحسن خلفاء بني العباس، وهو فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، ثم قال ابن حجر موجهاً لقول هذا القائل: ويمكن أنه مهدي من ولد العباس وهو غير المهدي المنتظر فإن المهدي المنتظر من ولد فاطمة رضي الله عنها، ويكون في زمنه خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام ويجتمع به، فهذه العبارة صريحة في تعدد المهديين، وجمع بعضهم بين الأحاديث التي فيها أنه من ولد فاطمة، والأحاديث التي فيها أنه من ولد العباس بطريق آخر فقال: أن المهدي المنتظر من ولد فاطمة من جهة أبيه، ومن ولد العباس من جهة أمه، بأن تكون أمه أو
أم بعض آبائه من ولد العباس، وكلام ابن حجر في رسالته التي في علامات المهدي يقتضي أيضاً تعدد المهديين وأن المهدي المنتظر واحد فإنه قال فيها: أم بعض آبائه من ولد العباس، وكلام ابن حجر في رسالته التي في علامات المهدي يقتضي أيضاً تعدد المهديين وأن المهدي المنتظر واحد فإنه قال فيها: والذي يتعين اعتقاده ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من وجود المهدي المنتظر، وهو الذي يخرج الدجال وعيسى عليه السلام في زمنه، وهو المراد حيث أطلق المهدي، وأما من قبله فليس واحد منهم هو المهدي المنتظر، ويكون قبل المهدي أمراء صالحون لكنهم ليسوا مثله، فهو الأخير في الحقيقة، وكذلك غير ابن حجر ممن ألفوا رسائل في علامات المهدي كلهم يقتضي كلامهم تعدد المهديين وأن المهدي المنتظر واحد، وإنما قالوا بذلك التعدد لأنه قيل في محمد بن الحنفية أنه المهدي، وقيل في عمر بن عبد العزيز أنه المهدي، وقيل في محمد النفس الزكية ابن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط أنه المهدي، فهؤلاء أطلق على واحد منهم أنه المهدي، فيثبت بذلك تعدد المهديين قطعاً،
لكن ليس واحد من هؤلاء هو المهدي المنتظر، فالمهدي المنتظر واحد وهو لم يظهر إلى الآن، فيمكن حمل كلام القرطبي على غير المهدي المنتظر ممن كان خروجهم بالمغرب، ولا يمكن حمل كلامه على المهدي المنتظر لأنه إنما يظهر بمكة والناس بلا خليفة كما تقدم إيضاحه، وكذلك لا يصح قول من قال إنما يكون ظهور المهدي المنتظر من ماسة بالغمرب، فهو قال باطل لا أصل له كما نبه على ذلك العلامة ابن خلدون في تاريخه، فإنه قال: أن القول بظهوره من ماسة باطل لا أصل له، وإنما نشأ ذلك من رجل من المتصوفة خرج بالسوس الأقصى وعمد إلى مسجد ماسة وزعم أنه الفاطمي المنتظر تلبيساً على العامة هناك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك، وأفهمهم أن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته، فتهافت عليه تهافت الفراش طوائف من عامة البربر، ثم خشي رؤساؤهم اتساع نطاق الفتنة فدسوا إليه من قتله في فراشه وانطفأت الفتنة. والحاصل أن الذي تقتضيه الأحاديث النبوية وصرح به العلماء أن المهدي المنتظر، إلى هذا الوقت لم يظهر، وذكروا له علامات كثيرة بعضها مضى وانقضى وبعضها باق لم يظهر، ومن أعظم علاماته أنه يصلحه الله في ليلته، وأنه من ولد فاطمة رضي الله عنها، وأنه يبايع مكرهاً لا أنه يطلب البيعة لنفسه ويقاتل الناس لتحصيلها، بل لا يبايع حتى يتهدد بالقتل، وأن ظهور البيعة له إنما تكون بمكة بين الركنين، وإن ظهوره إنما يكون عند وجود اختلاف بموت خليفة، فلا يظهر ويبايع إلا والناس بلا خليفة، فهذه الأشياء هي أقوى العلامات عليه، وله علامات كثيرة غير هذه ذكرها الذين ألفوا الرسائل في تحقيق أمره.
لكن تلك الأشياء ظنية ومختلف في كثير منها، وذلك مثل اسمه واسم أبيه وموضع ولادته ومقدار عمره وقت ظهوره، ومدة مكثه في الأرض بعد ظهوره، فكل هذه الأشياء مختلف فيها.
فما قيل في مقدار عمره وقت ظهوره أنه ابن أربعين، وقيل أنه ابن عشرين، وقيل أنه ابن ثمانية عشر، وقيل غير ذلك. وقيل في مدة مكثه بعد ظهوره أنها سبع سنين أو تسع سنين وقيل أنها أربعون وقيل عشرون وقيل غير ذلك. وقيل في اسمه أنه محمد وقيل أحمد، وهل هو من ولد الحسن أو الحسين أو العباس؟ وجمع بعضهم بأنه من ولد أحد الحسنين من جهة أبيه ومن ولد الآخر من جهة أمه، وفي بعض أمهاته من هي من ولد العباس. والأحاديث التي جاء فيها ذكر ظهور المهدي كثيرة متواترة، فيها ما هو صحيح وفيها ما هو حسن وفيها ما هو ضعيف وهو الأكثر، لكنها لكثرتها وكثرة رواتها وكثرة مخرجيها يقوي بعضها بعضاً، حتى صارت تفيد القطع، لكن المقطوع به أنه لا بد من ظهوره، وأنه من ولد فاطمة، وأنه يملأ الأرض عدلاً نبه على ذلك العلامة السيد محمد بن رسول البرزنجي في آخر الإشاعة. وأما تحديد ظهوره بسنة معينة فلا يصح لأن ذلك غيب لا يعلمه إلا الله، ولم يرد نص من الشارع بالتحديد، وقد ذكر كثير من المتقدمين من العلماء تحديد ظهوره في سنين عينوها بالظن والتخمين، فلم يخرج فيها فأخطأوا في ظنهم وتحديدهم، ويؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم في المهدي أنه يصلحه الله في ليلته أن المهدي لا يعلم بنفسه أنه المهدي المنتظر قبل وقت إرادة الله إظهاره، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف المخلوقات لم يعلم برسالته إلا وقت ظهور جبريل له بغار حراء حين قال له:" اقرأ باسم ربك الذي خلق " وأما قبل ذلك فكان يرى منامات كثيرة تأسيساً لرسالته وتقوية لقلبه، لكنه لم يعلم أن المراد منها تأسيس الرسالة، حتى أنه كان كلما رأى مناماً من تلك المنامات يخبر زوجته خديجة رضي الله عنه ويشكو إليها حاله،
فكانت ثبته وتقول له كلاماً يقوى به قلبه كما هو موضح في كتب الحديث، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ظهور جبريل عليه السلام له، وقوله:" اقرأ باسم ربك " فبالأولى أن المهدي المنتظر لا يعلم بأنه المهدي المنتظر إلا بعد إرادة الله إظهاره، ولذلك يمتنع من البيعة حتى يتهدد بالقتل ويبايع مكرهاً، فهذا هو سر قوله صلى الله عليه وسلم يصلحه الله في ليلته ليعلم من ذلك أنه لم يعلم أنه المهدي إلا وقت إرادة الله إظهاره، فكل من يدعي أنه هو المهدي المنتظر ويطلب البيعة لنفسه أو يقاتل الناس لتحصيلها فهو مخالف لما صرحت به أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ادعى هذه الدعوى كثيرون فيما تقدم من الأزمان ولم تثبت دعواهم، وكان لهم مع الخلفاء وقائع وحروب مذكورة في التواريخ، وقد جمعت أسماؤهم ووقائعهم باختصار في رسالة مستقلة، ليعلم من وقف عليها أن كل من ادعى هذه الدعوى لا تتم له إلا إذا جاءت على طبق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى.
وقد ذكر العلامة ابن خلدون في تاريخه كلاماً فيه فوائد تعلق بهذا البحث، فلنذكر ملخص ذلك تتميماً للفائدة، وحاصل ذلك أن الذين يدعون هذه الدعوى إما أن يكونوا موسوسين أو مجانين فلا علاج لهم إلا التنكيل بالقتل والضرب إن أحدثوا فتنة، وإلا يسخر بهم وتذاع السخرية بهم، والصفع في الطرق أو الأسواق، وإما أن يكونوا من طالبي الرياسة والملك فيجعلون هذه الدعوى وسيلة لذلك ويغفلون عما ينالهم من الهلكة وإسراع الهلاك والقتل من الملوك والسلاطين عند إحداثهم فتنة بهذه الدعوى، وقد يكون بعض من ادعى هذه الدعوى من الصالحين ويريد إظهار الحق ويتخيل له أنه هو المهدي، فيخطئ ظنه ولا يعرف ما يلزمه وما يحتاج إليه في إقامة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
فإن الله لم يكتب عليه في ذلك إثارة فتنة وإنما أمره الله تعالى به حيث تكون القدرة عليه، قال صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ". وأحوال الملوك والدول قوية راسخة لا يزحزحها ولا يزلزلها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوة التي من ورائها العصبية بالقبائل والعشائر، وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله تعالى بالعشائر والعصائب، وهم المؤيدون من الله تعالى بالكون كله لو شاء، لكنه سبحانه وتعالى إنما أجرى الأمور على مستقر العادة وإنه حكيم عليم. فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان محقاً قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك، وأما إن كان من المتلبسين بذلك في طلب الرياسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك، لأن أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين، ولا يشك في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة، وكل أمر يجتمع عليه كافة الخلق لا بد له من العصبية، وفي الحديث الصحيح:" ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه " وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق لهم العوائد في الغلبة بغير عصبية، والغفلة عن هذا هي أكثر أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طريق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء الثواب عليه من الله تعالى، فليكثر اتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغا والدهما، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين، وكثير منهم يدعي أنه المهدي المنتظر ولم تصح دعواهم، ويتبعهم كثير من العامة والأغمار ممن لا يرجعون إلى عقل يهديهم ولا علم يقيدهم،
يستجيبون لكثير ممن يدعون هذه الدعوى لما اشتهر من ظهور فاطمي، ولا يعلمون حقيقة الأمر، وأكثر ما يكون ذلك في الممالك القاصية وأطراف العمران بإفريقية والسوس من المغرب، وتجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطاً بماسة لما كان بذلك الرباط بالمغرب من الملثمين من كدالة، واعتقادهم هو أنهم قائمون بدعوة الفاطمي يزعمون ذلك زعماً لا مستند له إلا البعد عن القاصية عن مثار الدولة وخروجها عن نطاقها، فتقوى عندهم الأوهام في ظهور الفاطمي من ذلك الموضع، لخروجه عن رتبة الدولة ومثار الأحكام والقهر، ولا محصول لديهم في ذلك إلا هذا الوهم، وقد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتلبيس بدعوة تنشأ عن وسواس وحمق، وقد قتل الملوك والرؤساء كثيراً منهم، ثم قال: أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الأربلي، قال خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة وعصر السلطان يوسف بن يعقوب المريني رجل من منتحلي التصوف يعرف بالتوزيري، وادعى أنه الفاطمي المنتظر، واتبعه الكثير من أهل السوس من كدالة وكزولة، وعظم أمره وخافه رؤساء المصامدة وعلماؤهم، فدس عليه السكسوي من قتله بياتاً وانحل أمره. وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة في عشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس، وادعى أنه الفاطمي المنتظر، وتبعه الدهما من غمارة؛ ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها، وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتم أمره، وكثير من هذا النمط.
وأخبرني شيخنا المذكور بفرسية عن مثل هذا، وهو أنه صحب في حجه رجلاً من أهل البيت من سكان كربلا كان متبوعاً معظماً كثير التلامذة، وكان الناس يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان، وتأكدت الصحبة بيننا في الطريق، ثم كشف لي عن أمرهم وأنهم إنما جاؤوا من موطنهم
بكربلا قاصدين أرض المغرب، لإظهار دعوى أنه الفاطمي المنتظر، فلما وصل إلى المغرب وعاين دولة بني مرين، وكان أمير المؤمنين يوسف بن يعقوب في ذلك الوقت منازلاً تلمسان، فلما رأوا قوة ملكه قال ذلك الرجل لأصحابه: ارجعوا بنا فقد أزرى بنا الغلط وليس هذا الوقت وقتنا. وهذا يدل على أن ذلك الرجل استبصر بأن الأمر لا يتم إلا بالعصبية الكافية لأهل الوقت، فلما علم أنه غريب في ذلك الموطن ولا شوكة له وأن عصبية بني مرين في ذلك الوقت لا يقاومها أحد من أهل المغرب، استكان ورجع إلى الحق وأقصر عن مطامعه، وبقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت لا سيما في المغرب، إلا أن التعصب لشأنه لم يترك لهذا القول، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وقد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدعاة إلى الحق والقيام بالسنة، لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي ولا غيره، وإنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة وتغيير المنكر، ويعتني بذلك ويكثر تابعوه، وأكثر ما يعتنون بإصلاح السابلة، لما أن أكثر فساد الأعراب فيها لما فيها من طيب معاشهم، فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا، إلا أن الصبغة الدينية فيهم لم تستحكم، لما أن توبة العرب ورجوعهم إلى الدين إنما يقصدون به الأقصار عن الغارة والنهب، ولا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك، لأنها المعصية التي كانوا عليها، ومنها توبتهم. ونجد ذلك المنتحل للدعوة والقائم بزعمه بالسنة غير متعمق في فروع الاقتداء والاتباع، إنما دينهم الإعراض عن النهب والبغي وإفساد السابلة، ثم الإقبال على طلب الدنيا والمعاش أقصى قصدهم، وشتان بين هذا الطالب للدنيا وبين من أراد إصلاح الخلق لكل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم، فاتفاقهما ممتنع،
لا تستحكم للأول صبغة في الدين ولا يكمل له نزوع عن الباطل، ويختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه وولايته في نفسه دون تابعيه، فإذا هلك انحل أمرهم وتلاشت عصبيتهم.
وقد وقع ذلك بإفريقية لرجل من كعب من سليم يسمى قاسم بن مرة في المائة السابعة، ثم من بعد لرجل من بادية رياح كان أشد ديناً من الأول وأقوم طريقة في نفسه، ومع ذلك فلم يستتب أمرهما، وبعد ذلك ظهر ناس بهذه الدعوة يشتبهون بمثل ذلك ويلبسون فيها، وينتحلون اسم السنة وليسوا عليها إلا الأقل، فلا يتم لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم.
وأول ابتداء هذه النزعة في الملة ببغداد حين وقعت الفتنة بين الأمين والمأمون ابني الرشيد وقتل الأمين، وكان المأمون بخراسان فأبطأ عن مقدم العراق، وأراد انتزاع الخلافة من بني العباس ونقلها للعلويين، فجعل ولي عهده علياً الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، فهاج من ذلك فتن كثيرة ببغداد، واجتمع بنو العباس وكشفوا وجه النكير على المأمون، وتداعوا للقيام وخلعوه وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، فوقع الهرج وكثر القتل والنهب ببغداد، وانطلقت أيدي الذعار بها من الشطار والحربية على أهل العافية والصون، وقطعوا السبيل وامتلأت أيديهم من نهاب الناس، وباعوها علانية في الأسواق، ورفع أهلوها أمرهم إلى الحكام وقد ضعف أمرهم فلم ينصفوهم، فتوافر أهل الدين والصلاح وتعاقدوا على منع الفساق وكف عاديتهم.
وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدربوس ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابه خلق وقاتل بهم أهل الدعارة فغلبهم، وأطلق يده فيهم بالضرب والتنكيل، ثم قام من بعده رجل آخر يعرف
سهل بن سلامة الأنصاري وعلق مصحفاً في عنقه ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فاتبعه كافة الناس من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم، ونزل قصر طاهر واتخذ الديوان وطاف ببغداد، ومنع كل من أخاف المارة، ومنع الخفارة لأولئك الشطار، فقال له القائم الأول وهو خالد الدربوس أنا لا أعيب على السلطان، فقال له سهل: لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان، وذلك سنة إحدى ومائتين، فجهز إبراهيم بن المهدي بعد أن بايعه بنو العباس جيشاً لقتال سهل بن سلامة، فغلبه وأسره وانحل أمره سريعاً وذهب ونجا بنفسه، ثم اقتدى بهذا العمل بعده كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية، ولا يشعرون بمغبة أمرهم ومآل أحوالهم. ثم ذكر كثيراً من الأحاديث التي جاءت في المهدي وضعف كثيراً منها، ثم قال: والحق الذي يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه، وقد قررنا لك ذلك من قبل بالبراهين القطعية، وعصبية الفاطميين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق، ووجد أمم آخرون قد استعملت عصبيتهم على عصبية قريش، إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع والمدينة من الطالبيين من بني حسن وحسين بن جعفر، منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها وهم عصائب متفرقة، فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا أن يكون منهم، ويؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى يتم له شوكة وعصبية وافية بإظهار كلمته وحمل الناس عليها، وأما على غير هذا الوجه فلا يتم ذلك لما أسلفناه من البراهين الصحيحة انتهى ما أردت نقله من كلام ابن خلدون.
ورأيت في كثير من الرسائل المؤلفة في شأن المهدي أنه لا يتم أمره إلا بالقيام بالشريعة الغراء، وأنه يكون على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون، ويفيض الله على الخلق نوراً ببركته فيتبعونه ويقتدون به في جميع شؤونه وأفعاله وأقواله وأحواله، حتى يكون حالهم كحاله، ووصفهم كحال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ووصفهم، لأن الناس على دين ملوكهم، فإذا استقام خليفة المسلمين وصار كالخلفاء الراشدين فإنهم كلهم يستقيمون، وإذا زهد في الدنيا يزهدون، وملاك الأمر كله هو الزهد في الدنيا وعدم التبسط فيها، ومن الأمثال القديمة: الناس على دين ملوكهم، وذكروا أن السبب في هذا المثل أن الوليد بن عبد الملك بن مروان، كان مشغوفاً بتشييد البنيان، فكان الناس في زمانه ليس لهم همة إلا تشييد البنيان والقصور، وفي ذلك طول الأمل والغرور، ثم ولي بعده أخوه سليمان بن عبد الملك بن مروان، فكان مشغوفاً بكثرة الأكل وتنويع الأطعمة وتكثير الألوان، فكان الناس في زمانه يتفاخرون بالتوسعة في تنويع المأكولات ونهمكون في التلذذ بالشهوات، وفي ذلك أعظم البليات، ثم ولي بعد سليمان ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان، الملحق بالخلفاء الراشدين، فكانت همته في الاشتغال بالطاعات والعدل وإقامة الدين، فكان الناس في زمنه راغبين في فعل الطاعات مستكثرين من فعل الخيرات، فقالوا الناس على دين ملوكهم، فالخليفة الأعظم هو القدوة لجميع المسلمين، وأعظم شيء يقتدون به هو فيه، فيكون به صلاحهم وانتظام أمرهم واتفاق كلمتهم، هو الزهد في الدنيا والتناول منها بقدر الضرورة والحاجة وترك الفضول الذي لا يحصل إلا بتعب ولجاجة، فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة وبلية، والزهد فيها أصل كل خصلة سنية، ولا يكون الزهد من العامة
إلا بعد زهد الخاصة، فإن الخاصة هم العمدة في ذلك، والمراد من الخاصة: الملوك والسلاطين والأمراء والقضاة والعلماء. وأولى من يطلب منه الزهد في الدنيا الخليفة الأعظم الذي أقامه الله لإصلاح أمور الدنيا والدين، وإحياء الشريعة وقتال الكفار ودفع المفسدين. قال الإمام الطرطوشي في كتابه المسمى سراج الملوك: إن الخليفة إذا عدل في بيت المال، وساوى نفسه بالمسلمين في الأخذ من بيت المال بقدر الحاجة، كان المسلمون كلهم عسكراً للإسلام.
والحاصل أنه إذا زهد في الدنيا واقتصر على قدر الحاجة والضرورة في جميع الأحوال يتبعه على ذلك الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء وجميع الناس من الرجال والنساء والأغنياء والفقراء، فإذا حصل ذلك يسهل حينئذ إقامة الشريعة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصير همة الجميع متوجهة لاتحاد الكلمة والاجتماع على منهج الشرع المطهر، فتحيا بذلك السنن التي أميتت، وتزول البدع التي أذيعت، وتقبل الناس على جهاد الكفار وفعل كل الطاعات، فإن الكفار إنما تغلبوا على المسلمين بسبب رغبة المسلمين في الدنيا واقتحامهم المعاصي لتحصيلها، وإزالتها مخالفة لأغراضهم الذين هم بصددها، فلا يمكن استقامتهم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما داموا لم يكونوا كذلك لا يستقيم لهم أمر، وقد صح عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان كثيراً ما يقول في خطبه ومجالسه: أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، ولا يحتمله إلا أفضلكم مقدرة وأملككم لنفسه. فهذه العبارة نص صريح في أنه لا يستقيم أمر المسلمين حتى يكونوا كما كان الصحابة رضي الله عنهم، وما دام الخليفة الأعظم يتبسط في الدنيا ويأخذ من بيت المال
ما أراد مما زاد عن حاجته، ويتكرم في العطار بما شاء على من شاء، ولا يراعي في ذلك القواعد المشروعة، ولا يسلك مسلك الخلفاء الراشدين، فإن الناس يتبعونه فلا يمكن حصول الاستقامة لهم، ولا تتحد كلمتهم ولا ينتظم أمرهم، ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بل يصيرون كلهم يطلبون الدنيا ويتلذذون بالشهوات، ويرتكبون لتحصيلها أنواع الخطيئات، لأن الله تعالى أجرى عادته بين العباد أن يكون الناس على دين ملوكهم، فهذا هو السبب في عدم اتحاد المسلمين واتفاق كلمتهم.
وأما في زمن المهدي فإنه يسلك هو مسلك الخلفاء الراشدين، ويزهد في الدنيا ولا يأخذ من بيت المال إلا بقدر الضرورة، والناس يكونون في زمنه على طريقته يفعلون كما يفعل. فظهر بهذا أنه إذا زهد الخليفة الأعظم في الدنيا وعدل في بيت المال وأخذ منه بقدر حاجته من غير زيادة له ولخدمه وأتباعه واتخذ له من الخدم الذين يقومون بخدمته بقدر الحاجة أيضاً من غير زيادة، يتبعه على ذلك كافة الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء وجميع الأبرار والفجار، والخليفة أمين على بيت مال المسلمين لا يتصرف في شيء منه إلا بحسب المصلحة العائدة النفع على الإسلام والمسلمين، فهو مثل قيم مال اليتيم لا يتصرف إلا بالمصلحة الظاهرة، فإن كان له مال خاص به يسعف به عن الأخذ من مال المسلمين، فلا يأخذ شيئاً، وإن لم يكن له مال يأخذ بقدر الحاجة كما قال تعالى:" ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف " فإذا فعل ذلك اقتدى به الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء وكافة الخلق فتتحد قلوبهم وتجتمع كلمتهم، ويقبلون على فعل الطاعات ويعرضون عن فعل السيئات، ويتركون التلذذ بالشهوات، فيتم اجتماعهم على نصرة الدين،
ويصيرون كلهم عسكراً لنصرة الإسلام، ويقوى عزمهم على قتال أعدائهم من القوم الكافرين. وأما إذا تبسط الخليفة في مال المسلمين، وتبعه الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء، فلا تطيب قلوب بقية المسلمين ببذل أموالهم وأنفسهم وأولادهم في قتال الكافرين، حيث يرون ملوكهم لم يساووهم، وما كان انتصار الصحابة على القوم الكافرين وفتحهم البلاد الواسعة مع الاتحاد واتفاق الكلمة، إلا بسبب مساواة أمرائهم لهم في جميع شؤونهم، وما حصل افتراق الكلمة وعدم ائتلاف القلوب، إلا لما استبد الملوك بالأموال وتبسطوا فيها، وترفعوا على بقية المسلمين وأكثروا من المكوسات والظلم بأخذ أمواله، وصرفوها في غير مصارفها، فشق على المسلمين تميزهم عنهم وترفعهم عليهم بأموالهم التي أخذوها منهم بغير حق.
ولا يظن ظان أن الخلفاء الراشدين إنما فتحوا الأمصار وانتصروا على الكفار بكثرة الصلاة والصيام، بل إنما كان ذلك بزهدهم في الدنيا وعدم تبسطهم بها وعدلهم في بيت المال، والحرص على مساواتهم للمسلمين، فطابت قلوب بقية المسلمين فبذلوا أموالهم وأنفسهم وأولادهم وجاهدوا الكفار وفتحوا البلاد، حتى كان الغزاة يتجهزون للغزو من أموال أنفسهم ويجهزون منها غيرهم إن قدروا على ذلك، ونفوسهم طيبة بذلك، وتأبى نفوسهم أن يأخذوا من بيت المال شيئاً إذا كان لهم ما يفي بذلك، لأنهم يرون أمراءهم مساوين لهم في جميع تلك الشؤون، وإذا سلك الخليفة والأمراء والعلماء هذا المسلك يرتفع عن المسلمين المكوسات والضرائب، وينتفي عنهم جور الحكام، لأنهم إنما يجورون عليهم ليتبسطوا في أموالهم ويتلذذوا بها، وإذا ساوى الحكام رعاياهم وعدلوا في بيت المال، تسخى نفوس الأغنياء بإعطاء الفقراء ويواسونهم، وتقنع نفوس الجميع بأقل القليل، فلا يبقى في المسلمين فقير، وينقاد الناس للحق وينصفون من أنفسهم،
فتزول المخاصمات التي كانت بينهم وتقل مرافعاتهم إلى الحكام، ويحصل بينهم كمال المحبة والائتلاف، ويرتفع كل شقاق واختلاف، وإذا عدل الخليفة في بيت المال وسلك في ترك التبسيط في الدنيا طريق النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، كان قدوة للمسلمين، ويكون له من الأجر مثل أجر من عمل بمثل عمله من المسلمين، وكان سبباً في اتحاد المسلمين وائتلاف قلوبهم واتفاق كلمتهم، وانتصارهم على القوم الكافرين، ويكون له في ذلك من الله الرضا والرضوان في الدنيا وجنات النعيم، وتقر بذلك عين النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بالمؤمنين رؤوف رحيم. ويستحيل أن يحصل لهم شيء من ذلك والخليفة لم يكن كذلك، لأنهم إنما يفعلون ما يفعل، وحالهم عن ذلك لا يتحول، والتبسط في الدنيا من أعظم أسباب الفسق الموجب للهلاك، قال تعالى:" وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " وعدم التبسط في الدنيا هو ملاك الأمر، وليس على الخليفة في سلوك هذا الطريق مشقة ولا ضيق، ولا منع من إدراك الحق ولا تعويق، وينال بغيته من الأكل والشرب والنكاح بغاية الراحة والتلذذ.
والحاصل أن استقامة الخليفة حتى يكون كالخلفاء الراشدين في عدله في بيت المال، هو السبب الأعظم في اجتماع كلمة المسلمين واتحادهم في جميع الأحوال، وعدم عدله في بيت المال سبب للافتراق في الحال والمآل، ولو صام النهار وقام الليالي الطوال، وبدون استقامة الخليفة وعدله في بيت المال كالخلفاء الراشدين لا يرجى للمسلمين فلاح، ولا يتم لهم اتحاد ولا نجاح، أطال الله عمر هذا السلطان عبد الحميد، ونظر إليه بعين العناية والرعاية والتأييد، ووفقه وأعلى مقامه وجمل به لياليه وأيامه آمين.