الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي حَمَى حِمى السنة المحمدية بأئمة جهابذة نقاد، ونشر أعلامها وأسس بنيانها بأطواد الأفراد، وخص هذه الأيمة المصطفوية بشرف سلاسل الإسناد، ونضر وجوههم في الدارين فرقوا مراقي الإسعاد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الآمر بحفظ سنته، وصونها عن المحرف الوضاع وكل ذي إلحاد، وعلى آله وصحبه ما سلسل محدث وأرسل وعنعن وأفاد، وعلى التابعين لهم من كل حافظ متقن ضابط خبير بالمدارك نقاد.
أما بعد فيقول فقير مولاه الغني، محمد بن محمد المغربي الأزهري منح فتح الجواد، لما وردنا موارد حلب العذبة الأوراد سنة 1173، لإزاحة ما على القلب من الإنكاد، وحللنا في منزل رحب في مقعد صدق يزري بإرم ذات العماد، عند جناب رفيع سيد طويل النجاد، باذخ شامخ الأوتاد، فرآه يسابق بشاشته كل وارد من الوراد، طيب الشمائل، عذب المناهل نخبة الأفراد، بيض الله غرة احواله وأثمر أغصان آماله، وألبسه حلل الإرشاد والسداد، ورد علينا سؤال حديث مضمونه التنويه بفضل عكا الشهيرة عن التعريف بين الحاضر والباد، فكتبت عليه بأنه موضوع وكل ما ورد فيها وفي عينها فهو مفترى عند أعلام الإسناد، ولما رأيت الجوهري وتابعه صاحب المختار أوردا طوبى لمن رأى عكا، هززت عطفي لتحقيق الحق وإرشاد الأمجاد، وسميت الرقيم: تحذير أعلام البشر من أحاديث عكا وعينها المسماة بعين البقر، وينحصر المسطور في مقدمة وخاتمة، فيها تمام المقصد، وقد لبست حلة الإنصاف التي هي سنة علماء السنة والله الهادي وعليه اعتمادي وبه الحول والقوة ومنه المنة.
المقدمة لا يخفى على الممارس أن أئمة الذين ذكروا ضوابط يعرف بها وضع الحديث كسماجة ألفاظه أو برودة معانيه، أو
مخالفة للمحسوس أو لظواهر النصوص، أو لبلوغه في الحد مبلغاً يخرجه عن حده، فإن لكل شيء حداً، صرحوا بأن أحاديث البلدان لم يثبت منها إلا نزر يسير، وحذروا من أحاديثها غاية التحذير، وصرحوا بأنه لا يجوز أخذ حديث من أي كتاب كان، بل اشترطوا شروطاً يعرفها النبيل الخبير، وفي هذا المقام مهامه فسيحة يتيه فيها القطا ويحتاج معانيها إلى عون الملك الخبير.
القصد في ذكر الحديث الذي ورد علي في فضل عكا وليس هو عندي وقت هذه الكتابة، وإنما مضمونه أنها بلد على جبلين فمن دخلها رغبة فيها غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن خرج منها رغبة عنها لم يبارك له في خروجه، وبها عين من شرب منها أو اغتسل فيها فهو طاهر إلى يوم القيامة، أقول: أما أولاً فبرودة هذه المعاني لا تخفى على الممارس المعاني، وأما ثانياً فقد اشتمل هذا الحديث على أمور فاسدة، كونها على جبلين كذب ومين، فإني دخلتها وهي شهيرة عند الناس بينها وبين الجبال بون بعيد، وكون الداخل إليها رغبة فيها ينال تلك المغفرة التامة لا يصح، لأنه لم يثبت فيما هو أفضل منها بالنصوص القواطع، فكيف يثبت فيما لا فضل له أصلاً، ومما يؤيد ذلك قول المنلا علي القارئ في آخر كتابه في الموضوعات لما أورد حديثاً مضمونه أن الصلاة في بيت المقدس بخمسين ألفاً أن هذا الفضل محال، وإن روي في سنن ابن ماجه، فإن الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت فيها هذا الفضل، فكيف يثبت في بيت المقدس، قال وإنما الذي ثبت في بيت المقدس أن الصلاة بخمسماية، فإذا تأملت ما قرره المنلا علي رحمه الله تعالى، علمت أن مدعي هذه المغفرة يحتاج إلى مغفرة لقرينه مكفرة، وأما دعوى أنه أمر جائز في العقول، وقد لا يثبت للأفضل شيء ويثبت للمفضول، فجوابه أن السنة وفضائلها لا تثبت بتجويز العقول، وشهد لما قلناه ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتحه، أن كل احتمال لا يقبل في
مدارك الحديث، ومما يدلك على رد قوله غفر الله له ما تقدم الخ أن الحافظ ابن حجر العسقلاني ألف رسالة في الفضائل المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، ولم يعرج فيها على حديث عكا، وأما نقل الناجي له في رسالته إن صح نسبتها له، فالناجي ليس من أئمة هذا الِشأن، الذين لهم القدح المعلا كما لا يخفى على من عرف أهل هذا اللسان، وكون عينها من شرب منها أو اغتسل كان طاهراً إلى يوم القيامة، هذا أدهى وأمر، فما معنى طهور الشارب والمغتسل إلى يوم القيامة، فإن كان من الجنابة ولو أجنب من بعد، فهذا مذهب أهل المعمودية، وهو منابذ لصريح الشريعة المحمدية، وإن كان طاهراً من الذنوب، فهو شيء لم يثبت للشارب المغتسل من زمزم المرغوب، وإن كان غير ذلك فلا ندريه.
والحاصل أنه لا معنى له فقبح الله واضعه، فإنه ما أراد إلا تنقيص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إما جاهل مفسد، أو زنديق ملحد. وأما حديث الجوهري وصاحب المختار: طوبى لمن رأى عكا فهو من وادي الأول فإن المساجد الثلاثة التي شرفها الله تعالى بالنص والإجماع لم يرد فيها طوبى لمن رآها، ولا يغتر بذكره في الكتابين المذكورين، فإن أصحابهما ليس لهما قدم في السنة، ولا يجوز أخذ حديث من كتاب إلا بعد مراجعة أصوله المعتمدة، والقاعدة السابقة في البلدان ترده، والبينة على المدعي، فإن قواعد الأئمة لا تعارض إلا بثقل ثابت عن أثبات الأمة، وهذا الإمام الرافعي إمام السنة والتفسير والفقه المجمع على جلالته، أورد أحاديث في كتاب: التدوين، في مناقب قزوين ومرو وبخارى ونصيبين، فأقامت عليه علماء الأمة القيامة، ورموه بقوس واحدة مع أنه إمام علامة. والاغترار بكل ما سطر ليس على الفضل علامة، وطوبى هذه ليست طوبى الجنات بل هي طوبى تحتها عقارب وحيات، وكم من حديث فيه طوبى لا يساوي عند الأعلام طوبى، وأما عينها عين البقر، ففضلها مفترى منكر، غير معتبر.
وأما الحديث الطويل الذي آخره: واختار من العيون أربعاً، فذكر فيها عين عكا، فقد قال السيوطي وابن عراق وصاحب مثير الغرام منكر بالمرة. وهذا صاحب مثير الغرام وصاحب الأنيس الجليل، قد ذكرا فضائل مدن الشام على ما فيها، ولم يذكرا لعكا فضيلة مع أنهما بهذا الصدد، فلو ثبت لها أدنى فضيلة لطرزا بهما كتابيهما، فإنهما لم يصنعا كتابيهما إلا لنشر المحاسن الشامية، وأي محاسن أعظم من غفران الذنوب وطهارة الأبد؟ لا جزى الله الواضعين خيراً في الدنيا والآخرة، الذين ينسبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق بمنصب الفضلاء، فضلاً عن مقام سيد الأنبياء.
الخاتمة: لا يهولنك ويعظم عليك قولنا سابقاً لا يغتر بذكر الجوهري وصاحب المختار فتقول هذه جرأة على الجهابذة الأخيار، فاعلم أنه ليس كل قيل يقال، ولا كل ميدان تجول فيه الرجال، فكم من همام جهبذ في علم لا قدر له في علم الآخر، وهذا القاضي البيضاوي سيد المحققين قد أودع تفسيره أحاديث السور، وغالبها موضوع بإجماع المحدثين أهل النظر، وهذا الجلال المحلي على جلالة محله، نقل حديث أنا أفصح من نطق بالضاد، وكذا شيخ الإسلام تلميذه، وهو موضوع عند النقاد، ولو تتبعنا أمثال هذه لأسهبنا وأبعدنا كل الابعاد. ولقد كنت نظمت أبياتاً قبل هذه الرسالة، فأحببت ذكرها لتتميم المقالة وهي:
أقول لأرباب الحديث تبصروا
…
حديثي فقولي عندكم غير مفترى
أحاديث عكا لا يشك بأنها
…
أباطيل لا تعزى إلى سيد الورى
كقزوينهم السكندرية مثلها
…
ومرو، ولو كان الحديث مسطرا
وما صاحب المختار يروى حديثه
…
ولا الجوهري من بالصحاح تجوهرا
وأما الإمام الحال مجد زمانه
…
فذاك من الحفاظ ممن لها درى
وها الرافعي مع مجده ورسوخه
…
بتدوينه المعروف يرويه من قرا
أفاد أحاديثاً لقزوين مدحة
…
فزيفها الأعلام ممن رقى الذرى