الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم أرسله إلى أبيه أسيراً، وعند دخوله على أبيه وقع على قدميه مستجيراً، ملتمساً منه الرضى، والعفو عما قد مضى. فلما رأى حاله، صفح عنه وأذهب أوجاله، وأنزله في أحسن السرايات، وأجرى له ما يلزمه من الحوائج والنفقات، ثم أرسله بالتكريم إلى دار السعادة، فبعد وصوله أرسلته الذات الشاهانية شيخاً على حرم المدينة الشريفة ذات السيادة. ولم يزل في المدينة عدة سنين، حتى توفي بها سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين.
الشريف عبد الله باشا بن الشريف محمد بن الشريف عبد المعين ابن الشريف
عون بن الشريف عبد المعين بن الشريف عون بن الشريف محسن المكي.
بدر فضل قد ترقى على مدارج الصعود، ومشكاة أصل قد اقتبس من نورها طالع اليمن والسعود، وبحر نوال قد احتوى على أفنان الرغائب، وجد كمال قد استوى على عرش المناقب، سرى في معارج السعادة حتى وقف على الأعلى، وجرى في مناهج السيادة إلى أن كشف الجلي منها والأجلى:
طيب النبوة فيه عنه يخبرنا
…
بأنه ثمر من دوح طوباها
كريم نفس من الإحسان قد جبلت
…
منه الطباع وإن الفضل أعلاها
ذات من اللطف صاغ الله عنصرها
…
وقد كساها حلاها حين سواها
لم يظفر الوهم يوماً في تصورها
…
ولا يزور خيال الوهم مغناها
تردى برداء الفضائل فكان لها مظهراً، وتصدى لورود الأفاضل فكان لها مورداً ومصدراً، وجمع المحاسن الداعية لطواف الأحاسن حول
كعبة ذاته، وطبع القلوب على الشغف بمديح أفعاله ومليح صفاته، واشتهر قدره في العالم اشتهار الحسن للقمر، وانتشر ذكره بين الأنام انتشار العبير في حدائق الزهر، وتسامى علاه بالمجد إلى أن سما فوق المجرة، وترامى على أقدامه فرقد السعد وحفه بأنواع المسرة، وبسم له ثغر الدهر مبشراً له بنوال مناه، ورسم له من جلي القدر وعلي الذكر ما تقر به عيناه، ولاحظته عين الإمداد بإيثار البر والندى، وصافحته يد الإسعاد براحة الإرشاد والهدى:
انظر إليه ترى بدراً وشمس علا
…
وقطب فهم وعلم زان بالعمل
وليس يشبه هطل السيل نائله
…
هذا الذي جوده قد جل عن ملل
هيهات يحصي ذوو الأقلام ما اجتهدوا
…
أوصافه الغر ذات العز والجزل
حقق ترى جملة الأوصاف شيمته
…
كأنه قد براها الله في رجل
قد ألبسه الفخار تاج التوقير والإجلال، وحرسته عين الحماية عن معاكسة الآمال، وجذبته يد الأماني نحو كل مطلوب، وجبذته يمين التهاني إلى كل محبوب ومرغوب، وتهادت بنشر أريجه زهر الربا، وتوالت بنقل عطر أخباره نسمات الصبا، وتبدى في أفق السمو فكان شمسه المنيرة، وتردى بموجب الثناء فاستوجب قليله وكثيره، وتكلل بإكليل المعالي فكان لإمارة الحجاز لي عهدها، وتسلسل نسبه الشريف في الأعالي فكان لراية الاعتزاز علي مجدها:
هذا هو الشهم الذي حاز العلا
…
وجلت لنا الألطاف رفعة قصده
والماجد البطل الذي للارتقا
…
لا زال يرفعه الزمان بجده
تالله هذا للفضائل حلية
…
ولجيد هذا العصر لؤلؤ عقده
فلعمري لقد أنار الله به ربوع الفضائل، وأدار على محور عليائه مدار شمائل الأفاضل، ونشر للخافقين أجنحة الثناء عليه، وجمله بما كمله به من العواطف النبوية الآيلة بالإرث إليه، وخفضت هيبة جلالته العيون عن النظر في محياه، وحجبت عظمة ذاته المصطفوية الظنون عن توهمها إحصاء نعمته وحلاه:
فهو الهمام الذي صحت سيادته
…
واشتق من خير خلق الله عنصره
مهذب فطن كادت فراسته
…
عما بقلبك قبل القول تخبره
من معدن المجد حقاً كان هيكله ال
…
عالي وكاد فؤاد اللطف يضمره
هذا وإن غوامض فكره تحكي الدراري عداً، وفرائض شكره لم تبلغ الألسنة لها حداً، فاق على الكرا بكرمه المشهور، وراق لديه الإنعام حتى صار به كالعلم المنشور، ونحته المعالي إلى أن وقفت ببابه وتخيرته لأن تكون مقصورة على سموها بجنابه:
ربيع إذا ما زرته زرت روضة
…
يفتح فيها جوده حدق الزهر
إذا يده البيضاء أخرجها الندى
…
فقد نلت ما ترجوه من وافر البر
فكم من بيوت شادها فيض كفه
…
فأضحت تجيد المدح بالنظم والنثر
فحدث وقل ما شئت في شأن فضله
…
فقد صح عندي أنه زينة الدهر
فلا ريب أنه عماد بيت قد ارتفعت بالشرف علائمه، ومفرد وقت قد ارتقت على ذروة المجرة دعائمه، وملاذ يمن لمن أم ساحة إشراق بدره، ومعاذ أمن لمن يممه مشفقاً من إملاق دهره، كيف لا وهو الذي استرق الأفئدة نوالاً، واستحق الأثنية جمالاً وكمالاً، مع كونه مجلي دقائق العلوم، ومولى من تحلى بفهم حقائق المنطوق والمفهوم:
من كان يجهل في الأنام كماله
…
فأنا الذي أرويه من أنبائه
فيمينه كنز العطية والغنا
…
وشماله لم تدر جود عطائه
وصفاته نجم السماء يعدها
…
وجبينه للدهر بدر سنائه
وكلامه الدر الثمين وعلمه
…
قد فاق ضوء الشمس في إهدائه
ولد حفظه الله تعالى وأبقاه، وأعلى في معارج السعادة والسيادة مرتقاه، في أوائل ذي الحجة الحرام، سنة ألف ومائتين وتسع وخمسين من هجرة جده سيد الأنام، فبسمت له ثغور الأفراح، وحل طالع سعده في برج الإقبال والنجاح، ولحظته عين الرئاسة منذ كان طفلاً، ونظرته حدقة الفراسة فوجدته لكل رفعة أهلاً، ولقد تمثل الدهر لوالده المعظم بين يديه، وغدا يشدوه مهنئاً له بما لديه:
بملاذنا غوث الأنام لك الهنا
…
أبداً وقابلك الزمان بسعده
قد خصك المولى الكريم به وقد
…
ود الهلال يكون خادم عبده
فرفع قدم الصعود منذ كان صبياً، وارتفع على كاهل السعود فكان من ابتداء أمره علياً. ولم يزل مذ كان في حجر أبيه، تنميه يد الإجلال وتربيه، وهو يعرج على مدارج الكمال، وينتقي أعلى الشمائل والخصال، ويتخلق بأخلاق السادة ممن سلف، ويتحقق بحقائق ذوي السعادة والشرف، وذلك في البلدة المكرمة، والبقعة الشريفة المعظمة، مكة التي بها أميطت عنه التمائم، وتحلت بعقود حلاه أجياد الفضائل والمكارم، محوطاً بسور إمارة والده على الأقطار الحجازية، وكان الذي ولى والده هذه الإمارة العلية، حضرة المرحوم السلطان محمود سنة ألف ومائتين وسبع وستين. وحينما انفضل والده من الإمرة توجه إلى الآستانة العلية بطلب أمير المؤمنين، فتوجه معه المترجم وكان عمره ثماني سنين، فقرأ القرآن العظيم وأجاده، ثم أقبل على طلب العلم فوق العادة، ونهج مناهج
الصدور والأعيان، وعرج معارج السادة ذوي الفضل والشان، واستدام حفظه الله على ذلك، سالكاً في مستقيم هذه المسالك، إلى أن عاد والده الشريف إلى الإمارة العلية، سنة ألف ومائتين واثنتين وسبعين هجرية، فعاد مع والده لوطنه وبلدته، ومحل ولادته ونشأته، فنما بها ونحا نحو المعالي والصعود، وسما إلى أن استوى على مطالع اليمن والسعود، ولازم أهل العلم والفضل، وتحلى بالعبادة واللطافة والعقل، متكللاً بإكليل النباهة والأدب، متكملاً بجميل المجد وجليل النسب، حاسماً مادة الخروج عن المنهج الأكمل، راسماً على نفسه أن يترقى في أطواره عن كل جميل إلى أجمل، ولم يزل إلى أن طلع في سماء الهداية بدراً، وارتفع على أسره العناية فكان لها هامة وصدراً، وزرع في القلوب حب المحبة، فأثمرت سنابلها كل سنبلة ألف حبة.
وفي سنة ألف ومائتين وأربع وسبعين في شهر شعبان، توفي والده الشريف وانتقل لأعلى الجنان، وكان قد بلغ من العمر سبعين سنة، جعل الله ذروة الفردوس مقره ومسكنه، وكانت مدة إمارته أولاً أربعة وعشرين عاماً، وثانياً سنتان وجملة إمارته ستة وعشرون عاماً تنقص أياماً، وبقي المترجم بعد موت والده مستقيماً في البلد الحرام، وكان له بها التقدم ورفعة المقام.
وفي سنة سبع وتسعين توفي أخوه الشريف حسين باشا وكان بعد موت والده على الحجاز أميراً، فمات شهيداً وفاز مع الذين جزاهم بما صبروا جنة وحريراً، فتولى حضرة المترجم الإمارة بطريق الوكالة، إلى أن حضر الشريف عبد المطلب إلى الحجاز أميراً بالأصالة، ثم في السنة المذكورة في رجب، توجه إلى الآستانة وكان قد توجه له من الخليفة الأعظم طلب، وفي ذي الحجة من السنة المذكورة، عاد بالرخصة إلى وطنه وبلدته المشهورة، وبقي هناك إلى سنة تسع وتسعين، فانفصل الشريف عبد المطلب