الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السعدية عن العماد إسماعيل السعدي. وكان حريصاً على الاستفادة والإفادة، كثير التقوى والعبادة، وفي آخر أمره انقطع إلى الذكر والإرشاد وأقبل عليه المريدون من كثير من البلاد، فانتفع به كثير من الناس، ولم يزل على صلاحه وتقواه وعبادته ودعايته إلى الله، إلى أن دعته المنية، إلى المنازل العلية بعد الألف والمائتين وخمسة رحمه الله.
أخي وشقيقي الشيخ عبد الغني بن المرحوم الشيخ حسن بن الشيخ إبراهيم بن
الشيخ حسن بن الشيخ محمد البيطار
العالم الذي هو بكل وصف جميل متخلق، والعامل الذي هو بكل خلق كريم متحقق، روضة الفضل التي أشرقت أنوارها، ودوحة المجد التي أينعت ثمارها، وسماء العلم الذي تنورقت مشارقه ومغاربه، وأمطرت بالمعارف والعوارف سحائبه، سلك منذ نشأ منهج العلم والعمل، وملك من الكمالات ما يتعلق به الأمل، وقادته يد المعالي إلى الفضائل، وألبسته حلل المآثر وكسته أعلى الشمائل.
ولد سنة أربعين ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده، ثم بعد
قراءة القرآن الشريف حفظه مع الشاطبية على شيخ القراء في الديار الشامية الشيخ أحمد الحلواني، بالروايات السبع مع غاية الإتقان والتجويد، ثم قرأ على والده مدة من كتب النحو والصرف والفقه والحديث والتفسير والتوحيد والمنطق والمعاني والبيان والبديع، وحضر الكتب العظيمة كالتحفة لابن حجر والبخاري بطرفيه رواية ودراية والإحياء للغزالي وللخطيب التفسير والمختصر للسعد والمواهب اللدنية وغير ذلك.
وقرأ أيضاً على الشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ سعيد الحلبي وعلى الشيخ سليم العطار وعلى الشيخ عبد الغني الميداني وعلى الشيخ عبد القادر الخطيب وعلى غيرهم من العلماء الأعلام والسادات العظام؛ وأخذ طريق السادة الشاذلية على المرشد الكامل السيد محمد المغربي الفاسي واشتغل به كثيراً، ودأب على مطالعة كتب القوم إلى أن طالع الفتوحات المكية مع الفهم من ابتدائها إلى انتهائها، مع ترك الانهماك على الدنيا، والزهد فيما يؤدي إلى تحصيلها، وليس له شغل سوى الإفادة والاستفادة وما يوجب له التقدم الأخروي، متباعداً عن الشهوات النفسانية، كثير التحرز مما يوجب الملام عند الله، مستقيم لأطوار، يحب العزلة عن سوى الكمل الأخيار، كثير المذاكرة، جميل المحاضرة، لطيف العبارة خصوصاً في علم الإشارة، إن حضر في جمعية لا يتكلم غالباً إلا في المسائل العلمية.
قد اجتمعت معه حينما كنت مشتغلاً بترجمته، وذكر شمائله وحليته، فسألني وإن كنت لا أصلح للسؤال، وأعلم أنه مستو على درجة الكمال، عن قول السيد أحمد بن إدريس: لو أطال الله عمر رجل من زمن أبينا آدم إلى قيام الساعة وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ورجل قال لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله، مرة واحدة، في القيمة يسبق ذاك! ما المقصود من هذه العبارة، هل
هي على ظاهرها أم سلك فيها مسلك الحقيقة والإشارة؟ فطال بيننا الكلام، في هذا المقام، إلى أن قال لي: إن بعض الناس وقع من هذه العبارة في التباس، فبعضهم أنكرها وبعضهم توقف في المقصود منها وأمرني أن أكتب عليها ما يزيل حجاب الاعتراض عنها، فامتثلت أمره، وأجللت بالقبول قدره، وقلت مستعيناً بالله معتمداً على فضله وعلاه، مستمداً من فيضه العميم، أنه رؤوف رحيم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جازى عباده عن ذكرهم بذكره، ورغبهم في السؤال والدعاء بأمره، فأطمع المطيع والعاصي والداني والقاصي، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وخيرة الأصفياء، وعلى آله والتابعين، وأصحابه السابقين الأولين، ما ذكر الله ذاكر وشكره على قبوله شاكر. أما بعد فيقول سيدي الشيخ الإمام أحمد بن إدريس المغربي الحسني نسباً الإدريسي من ذرية سيدنا إدريس بن عبد الله قدس الله روحه ونور مرقده وضريحه: لو أطال الله عمر رجل من زمن أبينا آدم إلى قيام الساعة وهو يقول " أي بلسانه مع تصديق جنابه لكثرة الأجر والثواب والخلاص من سوء العذاب " لا إله إلا الله محمد رسول الله بدون أن يكون مستغرق القلب بالله، متخلياً عن شهود ما سواه، بل قلبه مشغول بالأمور الدنيوية، وفكره محصور بالأحوال الدنية، قد استولى على قلبه الحجاب، على سبيل الاستيعاب، فلم يبق مع ذلك لديه مطمع لتجلي الحقائق فيه، لعدم نورانيته بتراكم ظلم الحجب على عين بصيرته، لم يطلب من ذكره مع الحجاب سوى الأجر والثواب، قد غفل عن السير في مناهج الوصول، وظن أن حالته هي المنى والمأمول، مع أن أهل الله ما ألقوا نفوسهم في المهالك، وسلكوا أصعب المسالك، وفعلوا الفرائض والنوافل وذكروا الله في البكر والأصائل، إلا ليكشف لهم الحجاب ويشهدهم بعين قلوبهم
رب الأرباب، فيتمتعون بوصال المحبوب، ويحوزون على المنى والمرغوب، فهذا السائر الكامل الذي لم يكن سيره طلباً لثواب، ولا رهبة من عقاب، بل كان سيره في مقامات السائرين إلى رب العالمين. وهذه المقامات ثلاثة: مقام الإسلام ومقام الإيمان ومقام الإحسان، وإنما انحصرت مقامات السائرين إلى الله تعالى في هذه الثلاثة، لأن الإنسان لما كان من مبدأ ظهوره في النشأة الدنيوية الحسية إلى أن يبلغ مبلغ التمييز والعقل، إنما كان الغالب عليه أحكام الطبع والجهل بمبدئه ومعاده، عاملاً بحكم طبعه وهواه ومراده، فعندما عقل وأحس بالمبدأ والمعاد وأخذ في السير من طبعه إلى ربه بحكم شرعه، إما أن يكون في مبدأ هذا السير مع غلبة حكم الطبع وغلبة اقتضاء النفس الملهمة فجورها، فهو في مقام الإسلام، وهذا مقام الذي قال لا إله إلا الله محمد رسول الله من زمن سيدنا آدم على الفرض إلى يوم القيامة. وإما أن يكون في وسطع وذلك بظهور أحكام الروح الروحانية على أحكام الطبع والنفس حتى تصير مقتضيات الأمور الحسية والإرادات الطبيعية والجهالات النفسية، مقهورة تحت روحانيته، ومقتضاها من الإرادات العقلية والإدراكات العلمية، فهو في مقام الإيمان الذي هو مقام قبول الروح لما غاب عن الحس، وهو مقام غربة النفس. وإما أن يكون في آخر سيره من نفسه إلى ربه فهو في مقام الإحسان، وذلك بأن يخلص من الاعتدال، لاستغنائه بالشهود عن الاستدلال، ولخلاصه من شتات الأسفار، بالحصول في محل القرار، فاتحدت العين بالعين، وزال الأين من البين، فحينئذ أفناه التوحيد عن توحيده، وجرده الوجود عن تجريده، فانطمست عين تكثيره في تفريده، وأشرقت شمس واحديته في تعديده، قد وحد الحق ذاته عنه، وأوصل بصفة البقاء إليه بعد الفناء لطيفة منه، فصح فيه قول من قال:
توحيده إياه توحيده
…
فهو الواحد الموحد لنفسه
تعالت واحديته سبحانه
…
عن التوحيد بالتوحيد في قدسه
وهذا هو المراد بقول سيدي أحمد بن إدريس: ورجل أي آخر قال لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله مرة واحدة في القيمة يسق ذاك لأنه قالها في حضرة الشهود حين انمحت الذات بالذات، والصفات بالصفات، وغابت العين بالعين وزال التعبير بالاثنين، حينئذ ما قالها إلا الله، ولا نطق بها سواه، وصح له أنه نطق بالكلمة الكريمة في كل لمحة ونفس، لأن ذلك وما فوقه لم يخرج عن كونه من الوسع الإلهي الذي هو عبارة عن التجلي بجميع المظاهر الوجودية والوجوبية والإمكانية والصورية والمعنوية والحكمية والأثرية والعينية والعلمية والفرضية والقولية والفعلية والحسية والتنزيهية والتشبيهية فكان عين جميع ذلك من وجه واحد من كل الوجوه، وكان غير ذلك جميعه من وجه واحد من كل الوجوه، فهو الواسع الذي قبل الضدين وتجلى بالوصفين، وكان عين الشيء وخلافه وتقيد فهو مقيد وانطلق فهو منطلق، وتقيد في الانطلاق وانطلق في التقييد فصدقت عليه جميع الاعتقادات، ووقعت عليه جميع العبارات، كلت الألسن عن حصر ما هو عليه، وانحسرت العقول السليمة عن الوصول إليه، أحاط الكون عدماً ووجوداً، ولم يحط الكون به، ووسع الأشياء كلها علماً وعيناً وذاتاً وصفات ولم يسعه شيء. أما قوله في الحديث القدسي ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن، فهذا الوسع عند المحققين إنما هو عبارة عن قبول القلب للألوهية من حيثه