الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلطان عبد الحميد خان بن السلطان عبد المجيد خان بن السلطان محمود خان
قال في الفتوحات الإسلامية: هو السلطان المعظم المفخم، سلطان سلاطين العرب والعجم، حائز العلم والصلاح والكرم، المتشرف بخدمة طيبة والحرم، صاحب السيف والقلم، ظل الله في العالم غياث بني آدم، نعمة الله على العباد، وفضله على الحاضر والباد، ناصر الحق والدين، مؤيد شريعة سيد المرسلين، المحفوف بالسبع المثاني، أمير المؤمنين مولانا السلطان الغازي عبد الحميد الثاني، أعز اللهم سرير الملك والخلافة بوجوده، وأعد على القريب والبعيد آثار فضله وجوده، وأنفذ في جميع البلاد رسائل أوامر وأحكامه، وانشر على البرايا ألوية عدله وأعلامه، وأيده بتأييدك وأبده بتأبيدك، واجعل سلالة تلك السلطنة العلية العثمانية مسلسلة إلى منتهى الدوران، مستمرة على مرور الليالي والأيام، باقية إلى آخر الأزمان آمين يا رب العالمين. بويع أطال الله عمره لما خلعوا أخاه السلطان مراد في ثالث شعبان سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف، فكانت سلطنته زينة وبهجة وسروراً، وامتد بها في مشارق الأرض ومغاربها ما ملأهما نوراً، ومما كان من الحوادث في أول ولايته أنه وقع عصيان من بعض النصارى الداخلين في رعية الدولة العالية في بلاد الروم ايلي وهم طائفة يقال لهم الهرسك فجهز عليهم مولانا السلطان المذكور جيشاً فقاتلوهم، وكانوا قوماً ضعافاً لا يحتاج الاستيلاء عليهم وقهرهم إلى كلفة ولا إلى كثرة عساكر، إلا أن الروسية تداخلت معهم وصارت تقويهم بأشياء كثيرة حتى اتسعت فتنتهم وانتشرت، وأعانهم طوائف من النصارى
الذين كانوا قريباً منهم، إلى أن صارت المحاربة بين الدولة والروسية وصارت تلك الطوائف من النصارى مع روسية، وساقت الدولة بهذه الفتنة العساكر الكثيرة، وأنفقت الخزائن الوفيرة، فقدر الله بانهزام جيوش الإسلام وأسر كثير منهم في بلونة وذلك بسبب محاصرة عساكر الروسية لهم في ذلك البلد، وعدم إمكان وصول الميرة إليهم لشدة البرد، وكثرة الثلج، وممن أسر من كبار عساكر الإسلام الوزير عثمان باشا الغازي قوماندان ذلك الجيش في بلونة، ثم أطلق مع كثير ممن أسروا وكان إطلاقهم بعد انعقاد الصلح وتملك الروسية كثيراً من المدائن العظام إلى أن وصلوا إلى قريب أدرنة.
والكلام على هذه الفتنة طويل قد أفرد بالتأليف، وختام الأمر أن بقية الدول توسطت في الصلح بين الدولة العلية ودولة الروسية وانعقد الصلح سنة خمس وتسعين على أن يبقى تحت يد الروسية ما تملكوه من البلاد، وأن الدولة العلية تدفع لهم غرامة الحرب وكان شيئاً كثيراً، وتبقى للدولة أدرنة وما يليها. وكان هذا الخلل إنما دخل على المسلمين بعد خلع السلطان عبد العزيز فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي سنة ست وتسعين ومائتين وألف أعطت الدولة العلية جزيرة قبرس للإنكليز، على أن تكون بأديهم سنين موقتة بشرط أن يدفعوا للدولة العلية قدر الخراج الذي كان يحصل منها، وقد تكرر وضع اليد على قبرس من المسلمين والنصارى مراراً كثيرة، أولها من زمن الصحابة حين افتتحها معاوية رضي الله عنه، وبعد ذلك صار المسلمون والنصارى يتداولونها، تارة تكون بيد هؤلاء وتارة بيد هؤلاء، وفي سنة ست وتسعين ومائتين وألف خلع والي مصر إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا.
وقد كان محمد علي باشا لما انعقد الصلح بينه وبين مولانا السلطان عبد الحميد سنة خمس وخمسين ومائتين وألف جعلت له مصر ولأولاده من بعده، فلما صارت ولايتها لإسماعيل باشا أراد حصر الولاية في أولاده ومنع إخوانه وأولاد إخوانه منها، فتوجه إلى دار السلطنة في مدة السلطان عبد العزيز سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف فتم له مراده، وجعلوا ولاية مصر له ولأولاده الأكبر فالأكبر، وكان الصدر الأعظم في ذلك الوقت في دار السلطنة هو محمد رشدي باشا الشرواني.
ثم أن الله قضى وقدر أن عاقبة هذا الأمر الذي فعله إسماعيل باشا أول ما ظهر سوءه عليه، فإنه في سنة ست وتسعين ظهر عليه كثيرة ديون أخذها من الدول الأجنبية وأنفقها في غير حقها، فتشاور أهل الديون على أنهم يضبطون خراجات مصر ومحصولاتها لأجل استيفاء ديونهم، فلما أحس بذلك أراد أن يجعل لهم عصبية يمنعهم بها، فتداخل مع العلماء وأهل مصر وعقد بينه وبينهم عهوداً ومواثيق على أن الأمور كلها تكون بيد العلماء والأهالي وبمشاورتهم، فملا أحس الإنكليز والفرنسيس وغيرهما بانعقاد هذه العصبية سعوا في خلعه ووافقهم على ذلك مولانا السلطان عبد الحميد، فخلعوه في سنة ست وتسعين وجعلوا ولاية مصر لولده الأكبر محمد توفيق باشا عملاً بما تقرر قبل ذلك حين نفى إخوته وبنيهم من دخولهم في الولاية من بعده، وإن الولاية من بعده تكون لأكبر أولاده فأقاموا عليها ولده الأكبر وهو محمد توفيق باشا، وتوجه والده إسماعيل باشا بعائلته وبقية أولاده إلى نابولي من بلاد إيطاليا، وجعل له مرتب من محصولات مصر وخزينتها.
وفي سنة سبع وتسعين ومائتين وألف استولت دولة الفرنسيس على تونس وأعمالها بالمكر والخديعة والحيلة، فجهزت دولة الفرنسيس عساكر
كثيرة وأظهرت أنها تريد تأديب بعض قبائل العرب العصاة، منهم قبيلة يقال لهم الخمير في أعمال تونس، فوصلوا بعساكرهم إليهم وقاتلوهم وقهروهم ثم زحفوا بعساكرهم إلى تونس، ولم يستطع أحد أن يدفعهم إلى أن قاربوا دخول تونس، فاضطرب أهل تونس اضطراباً كثيراً، ثم عقدوا معهم صلحاً وأدخلوا طائفة من عساكرهم تونس وأبقوا الباي وهو حاكم الإقليم على ولايته بحسب الظاهر، واستولوا في الباطن على الأحكام والمحصولات والخراجات، واستقبلوا الديون التي كانت على والي تونس، وصارت الأمور كلها بأيديهم فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف كانت فتنة بمصر بين والي مصر توفيق باشا وبين عرابي باشا، وكان عرابي باشا من رؤساء عساكر محمد توفيق باشا، واتسع الأمر في ذلك، فجاء الإنكليز بعساكرهم البحرية نجدة لمحمد توفيق باشا إلى الإسكندرية، وضربوا مدافعهم على الإسكندرية، وقاتلوا الذين كانوا مع عرابي باشا، وكان ذلك في شعبان ورمضان سنة تسع وتسعين، واتسع الأمر بما يطول الكلام بذكره، وكانت الغلبة لتوفيق باشا ومن معه من الإنكليز، وتملكوا الإسكندرية، وذهب عرابي باشا ومن معه إلى مصر، ثم سارت الإنكليز بعساكرهم لقتاله بمصر، والكلام على ذلك طويل، وآخر الأمر أنه انهزم عرابي باشا ومن معه، ثم دخلوا مصر وقبضوا على عرابي باشا وعلى كثير ممن كانوا معه، فقتلوا جماعة منهم ونفوا جماعة نفياً موقتاً، وجماعة نفياً مؤبداً، وصار العفو عن قتل عرابي باشا ونفوه مع بعض من كانوا معه إلى جزيرة سيلان من أعمال مليبار من بلاد الهند، وجعلوا إقامته ومن معه هناك، ورتبوا لهم مرتباً يكفيهم. واستولى الإنكليز على القطر المصري، ووضعوا عساكرهم في القلعة على صورة أنهم إنما فعلوا ذلك إعانة لمحمد توفيق باشا وأبقوه على ولايته.
والإنكليز مع ذلك كله يقولون ليس مرادنا الاستيلاء على مصر وإنما مرادنا الاصطلاحات والتأييد لمحمد توفيق وإذا استقامت الأمور وانتظمت أحوال مصر نخرج منها وتخرج عساكرنا.
وفي سنة سبع وتسعين ظهر رجل بالسودان يسمى محمد أحمد يقال أنه المهدي أو قائم طالب لإظهار الحق ولم يدع أنه المهدي، ويقال أنه شريف حسني، وكان قبل ظهوره مشهوراً بالصلاح ومن مشايخ الطرائق، قيل إنه على طريق الشيخ السمان، وأول ظهوره أنه لما كثرت أتباعه ومريدوه وقع اختلاف بينه وبين العساكر المصرية المتملكين للسودان عمالاً لصاحب مصر محمد توفيق باشا، ثم اتسع الأمر بينهم وبينه إلى القتال، وقاتلوه وقاتلهم مراراً، وكانت الغلبة لمحمد أحمد عليهم حتى استولى على كثير من بلاد السودان وأخرجهم منها، فلما دخل الإنكليز مصر صار الإنكليز هو الذي يجهز عليه العساكر ويقاتله بعساكر الإنكليز ومعهم عساكر مصر، ووقع بينهم وبينه وقائع كثيرة يطول الكلام بذكرها، والغلبة في تلك الوقائع كلها له عليهم، فتملك كردفان وكسلة والخرطوم وبربرة ودنقلة وغير ذلك، وقتل منهم خلقاً كثيراً لا يحصى عددهم، وكان أمره معهم عجيباً يأتون إليه بالعساكر الكثيرة، والمدافع والآلات الشهيرة التي لا يطيق أحد مقابلتها، فيقابلهم بجيوشه السودانيين وليس معهم إلا السيف والرمح والسكاكين، فيهجمون على تلك العساكر في موضعهم ومحط جيشهم ولا يبالون بمدافعهم وآلاتهم حتى يخالطوهم ويقتلوا أكثرهم من قرب طعناً بالرماح وضرباً بالسيوف والسكاكين، ويشتتون شملهم، ومنهم جماعة في براري سواكن قد ولى محمد أحمد عليهم رجلاً يسمى عثمان ذقنه، فجاء بمن معه من السودان لمحاصرة سواكن وإخراج الإنكليز والعساكر المصرية منها فخرجوا إليه بجيوشهم الكثيرة، وآلاتهم ومدافعهم الشهيرة، فهزمهم عثمان ذقنة ومن معه من السودان هزيمة بعد هزيمة، وقتل الكثير منهم حتى أنهم جاؤوه في
سنة ثنتين وثلاثمائة بنحو من سبعين مركباً مشحونة بالعساكر الكثيرة، والآلات والاستعدادات الوفيرة، وخرجوا لقتاله في البر قريباً من سواكن، فهزمهم وقتل أكثرهم وشتت شملهم وغنم أكثر أموالهم ودوابهم وذخائرهم وأسبابهم، وإلى هذا الوقت وهو شهر ذي الحجة من سنة ثنتين وثلاثمائة وعثمان ذقنه ومن معه من السودان في نواحي سواكن محاصرون لها، وفيها عساكر للإنكليز وصاحب مصر قيل أن جيوش محمد أحمد تبلغ ثلاثمائة ألف أو يزيدون. وأما دعوى أنه المهدي فمختلف فيها فمن الناس من يقول أنه يدعي أنه المهدي، ومنهم من يقول لم يدع أنه المهدي بل يقول أنه قائم لإظهار الحق وإقامة الشريعة وإخراج الإنكليز من مصر، والأكثر من الناس يقولون أ، هـ رجل صالح على غاية من الاستقامة، ومنهم من يقدح فيه وينسب إليه خلاف ذلك، ويقول إن جيوشه يقع منهم فساد كثير، وليس لهم غرض إلا القتل والنهب، وإنهم في استيلائهم على كردفان والخرطوم وغيرهما قتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين، فيهم العلماء والصلحاء والنساء والأطفال، وقيل إن وقوع ذلك كان من بعض المفسدين منهم ولم يرض بذلك محمد أحمد ولم يأمر به، والله أعلم بحقيقة الحال. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن انتصار آخر هذه الأمة في آخر الزمان يكون بالسودان فيحتمل أنهم هؤلاء ويحتمل أن يكونوا غيرهم، وانتصار المسلمين بهم في آخر الزمان مأخوذ مما ذكره الخازن في تفسيره عند تفسير قوله تعالى " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " من سورة الواقعة فإنه قال ما نصه: ثلة من الأولين يعني من المؤمنين الذين قبل هذه الأمة، وثلة من الآخرين يعني من مؤمنين هذه الأمة، ويدل عليه ما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن رويم، وقال لما أنزل الله عز وجل قوله تعالى:" ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه