الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: بأبي وأمي بلى يا رسول الله، قال: بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء فيك، من شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حاسد. توفي المترجم رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة ومائتين وألف، ودفن ببستان المجاورين بمحفل عظيم من العلماء والأعيان.
السيد عبد الغفار بن السيد عبد الواحد بن السيد وهب المعروف بالأخرس
أديب قد تحلى كلامه بقلائد العقيان، ولبيب قد احتوى نظامه على بلاغة قس وفصاحة سحبان، فهو الفرد الذي جرت في بحور شعره سفن الأذهان، ودارت على الندمان كرؤوس نثره ونظمه فأغنتهم عن الحان والألحان.
ولد في بلدة الموصل بعد المائتين والعشرين والألف من الهجرة النبوية، ونشأ في مدينة دار السلام المحمية، ولم يزل يجول في نواحي العراق مرتحلاً وحلاً، تارة مثرياً وتارة مقلاً، فتارة في البصرة وتارة في بغداد، يتنكب الأغوار منها والأنجاد. وفي إبان صباه كان قد أرسله المرحوم الوزير الخطير والمشير الكبير، حضرة داود باشا والي بغداد، عليه رحمة الملك الجواد، إلى بعض بلاد الهند ليصلحوا لسانه عن الخرس، وما كان فيه من الكلام قد احتبس، فقال له الطبيب: أنا أعالج لسانك بدواء، فإما أن ينطلق وإما أن تسارع إلى دار البقاء، فقال له وهو منه نافر وعنه مغضي، إنني لا أبيع كلي ببعضي، واتبع طريق الصواب والسداد، وكر راجعاً إلى بغداد. وبقي فيها مدة يكابد منها بعضاً من اليسر وبعضاً من الشدة. وفي عام التسعين بعد المائتين والألف عزم على
التوجه إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وكان ذلك الأثناء في البصرة الفيحاء، فتمرض هنالك بعد أن أقعد فرجع إلى مدينة الزوراء دار السلام، يكابد الشدائد والآلام، ثم في شهر رمضان من ذلك العام، عاد أيضاً إلى البصرة وبه من المرض حسرة وأي حسرة، وصار نزيلاً في دار ذي المقام الموفور، الشهم الكامل الشيخ أحمد نور. فلم يزل يثقل به المرض من جهة ما عرض لجوهر حياته من أنواع العرض، إلى حين الزوال من يوم عرفة فتوفاه الله، وكان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله. فتأسف عليه الخاص والعام، وقالوا أن الأدب قد طويت أعلامه بعد هذا الهمام، فشيع جنازته أفاضل البصرة وبقلوبهم على فقده حسرة وأي حسرة، وأقيمت الصلاة عليه بعد صلاة العيد، وكان ذلك المشهد دليلاً على أنه ختم له بالختم السعيد، فدفنوه بمقبرة الإمام الحسن البصري خارج قصبة سيدنا الزبير، لا زالت تنهل عليه هواطل الرحمة والخير، فهناك طواه ضريحه، وخفقت بحور شعره وأدبه بعد أن سكن ريحه، وانقض بموته ذلك البنيان، ونطقت أفواه نظمه بعد أن سكن منه اللسان، وانطفا نور ذياك الجنان، فسقط بسقوطه نجم النظم والبيان، وأضحى داثر الأثر خفي العيان.
وكان رحمه الله حسن العقيدة سلفي الأثر، ساكناً بجانب الكرخ من بغداد، علوي النسب المفتخر. وقد ناهز عمره السبعين، فلا زالت رحمة المعين تتولاه كل حين. ومن قصائده الحسان، التي اشتهرت في البلدان:
أتراك تعرف علتي وشفائي
…
يا داء قلبي في الهوى ودوائي
ما رق قلبك لي كأن شكايتي
…
كانت لمسمع صخرة صماء
والشوق برح بي وزاد شجونه
…
بأشد ما ألقى من البرحاء
عجباً لمن أخذ الغرام بقلبه
…
أنى يعد به من الأحياء
هل يعلم الواشون أن صبابتي
…
كانت بلحظ مهاً وجيد ظباء
وتجرعى مضض الملام من التي
…
حلت عقيب الجزع في الجرعاء
لم يحسن العيش الذي شاهدته
…
من بعد ذات الطلعة الحسناء
فمتى أبل صدى بمرشف شاذن
…
نقض العهود ولا وفى لوفائي
وجفا ومل أخا الهوى من بعدما
…
كنا عقيدي ألفة وإخاء
ونأى بركب الظاعنين عشية
…
أين الركاب وأن ذاك النائي
أصبحت لما ماس عدل قوامه
…
أشكو طعان الصعدة السمراء
وأجيب سائل مهجتي عن دائها
…
دائي هواك فلا بليت بدائي
لم يدر واللعس الممنع طبه
…
أن الدواء بمقتضى الأدواء
إلى آخرها وهي طويلة ومن قوله رحمه الله:
هل تركتم غير الجوى لفؤادي
…
أو كحلتم عيني بغير السهاد
قد بعدتم عن أعين فهي غرقى
…
بدموعي ولي فؤاد صادي
ثم وكلتمو السهاد عليها
…
يمنع العين عن لذيذ الرقاد
من مجيري من الأحبة بجفو
…
ن وتعدو منهم علي العوادي
علموا أنني عليل ومن لي
…
أن أرى طيفهم من العواد
نزلوا وادي الغضا فكأن الدمع مني سيول ذاك الوادي
تركتني أضغانهم يوم بانوا
…
وحدا فيهمو من البين حادي
بين دمع على المنازل موقو
…
ف وشمل مشتت بالبعاد
وفؤاد يروعه كل يوم
…
ذكر أيامنا الحسان الجياد
يا رفيقي وأين عهدك بالجز
…
ع سقاه الغمام صوب عهاد
إلى آخرها وله أيضاً:
أتنكر منك ما تطوي الضلوع
…
وقد شهدت عليك به الدموع
ولولا أن قلبك مستهام
…
لما أودى بك البرق اللموع
ولا هاجت شجونك فاتكات
…
تكتم ما تكابد أو تذيع
تشوقك الربوع وكل صب
…
تشوقه المنازل والربوع
ليال بالتواصل ماضيات
…
بحيث الشمل ملتئم جميع
ومن كلامه المترجم أيضاً:
بارق لاح فأبكاني ابتساما
…
نبه الشوق من الصب وناما
ولمن أشكو على برح الهوى
…
كبداً حرى وقلباً مستهاما
ويح قلب لعب الوجد به
…
ورمته أعين الغيد سهاما
دنف لولا تباريح الجوى
…
ما شكا من صحة الوجد سقاما
ما بكى إلا جرت أدمعه
…
فوق خديه سفوحاً وانسجاما
وبما يسفح من عبرته
…
بل كميه وما بل أواما
ففؤادي والجوى في صبوتي
…
لا يملان جدالاً وخصاما
ليت من قد حرموا طيب الكرى
…
أذنوا يوماً لعيني أن تناما
منعونا أن نراهم يقظة
…
ما عليهم لو رأيناهم مناما
قسماً باللوم والحب أن
…
كنت لا أسمع في الحب ملاما
والعيون الباليات التي
…
ما أحلت من دمي إلا حراما
وفؤاد كلما قلت استفق
…
يا فؤادي مرة زاد هياما
إن لي فيكم ومنكم لوعة
…
انحلت بل أوهنت مني العظاما
وعليكم عبرتي مهراقة
…
كلما ناوحت في الأيك حماما
ومتى يذكركم لي ذاكر
…
قعد القلب لذكراكم وقاما
يا خليلي وما لي أن أرى
…
بعد ذاك الصدع للشمل التئاما
احسب العام لديكم ساعة
…
وأرى بعدكم الساعة عاما
لم يدم عيش لنا في ظلكم
…
أي عيش قبله كان فداما
حيث سالمنا على القرب النوى
…
وأخذنا العهد منها والذماما
ورضعنا من أفاويق الطلى
…
وكرهنا بعد حولين الفطاما
أترى أن الهوى ذاك الهوى
…
والندامى بعدنا تلك الندامى
كلما هبت صبا قلت لها
…
بلغيهم يا صب نجد سلاما
وبنفسي ظالم لا يتقي
…
حوبة المضنى ولا يخشى أثاما
ما قضى حقاً لمفتون به
…
ربما يقضي وما يقضي مراما
لو ترشفت لماه لم أجد
…
في الحشا ناراً ولو شبت ضراما
ولأطفأت لظى نار الجوى
…
ولعفت الماء عذباً والمداما
شد ما مر جفا مستعذب
…
من عذابي فيه ما كان غراما
إلى آخرها وهي طويلة وقال:
وظبي دعتني للحروب لحاظه
…
وهيهات من تلك اللحاظ خلاص
تصدى لحرب المستهام وما له
…
سوى اللحظ سهم والنقاب دلاص
فلما أجلت الطرف أدميت خده
…
وأدمى فؤادي والجروح قصاص
ومن قوله:
وأقمار غربن فليت شعري
…
إلا بعد الغروب لها طلوع
أمرت القلب أن يسلو هواها
…
على مضض ولكن لا يطيع
وما أشكو الهوى لو أن قلبي
…
تحمل بالهوى ما يستطيع
وقال:
وغادة لو بروحي بعت رؤيتها
…
لكنت والله فيها غير مغبون