الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السيد الحاج عمر لطفي أفندي بن الحاج محمد أفندي بن الحاج عمر أفندي بن
الحاج علي أفندي، شيخ الإسلام ومفتي السادة الأنام، أدام الله وجوده وأغدق عليه أنعامه وجوده.
فهو قمر رفعة قد طلع في أفق الشريعة بدرا، وقطب مدار ملة قد اجتبته أن يكون لها هامة وصدرا، وسماء فضل إشراق نجومها بالهداية موصوف، وشمس عدل لا يعتري سناها مدى الدهر كسوف، قد تحلى به جيد الأبد فكان له عقد انتظام، وتجلى على كرة الأمد فكان لها غاية المرام، أورق عوده في رباض دار السعادة وأزهر، وارتقت سعوده في سماء السيادة فأشرق نجمها وأزهر:
لما بدا خفيت له شمس الضحى
…
في ثوب غيم ترتديه وتكتسي
نطقت فضائله فأخرس دونها
…
نطق الفصيح وحار فكر الكيس
ولد هذا السيد الهمام، وكانت ولادته لهذا الدهر بمنزلة شهر رمضان إذا ظهرت به ليلة القدر:
بمولده طاب الزمان وأهله
…
ولا ريب قرت مقلة المجد والعدل
وذلك في سنة ألف ومائتين وإحدى وأربعين أطال الله بقاه وأدامه نعمة للعالمين. وكانت ولادته الشريفة في قرية صنديمة " قري من قرى بودروم " لا زالت عين العناية ترعاه بما يقضي له بالقدر الموسوم. وإن جده الأعلى كان قد هاجر من أغريبوز من بلاد المورة، إلى بودروم المعلومة المشهورة، فصارت نسبتهم إليها بين الناس مذكورة. ثم أن المترجم حفظه الله هو
من أحفاد القابودان الأسبق المرحوم سليمان باشا المعظم، وإن والدته هي المصونة فاطمة خانم بنت الحاج عمر أفندي المفتي المكرم. فلم تزل التربية في حجور السمو ترقيه ترقية الذهب الإبريز، وتربيه تربية النمو إلى أن زكا إدراكه وبلغ سن التمييز، فنهج على قدم الهمة منهج التقديم، وقرأ على شيخه محمود أفندي كتاب الله العظيم، ثم حضر على الحاج علي أفندي العلائيه لي، مقداراً من علم الصرف، باذلاً همته في الطلب حتى كأنه لم يغمض له خوف التقصير طرف:
تكهل في علم العلا وهو يافع
…
وجاز بلوغ الرشد وهو رشيد
وأفصح عن فصل الخطاب بمنطق
…
لديه لبيد ضارع وبليد
وفي آخر سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين غرة رجب، قدم به المرحوم والده إلى دار السعادة لأجل التحصيل والطلب، فوضعه في مدرسة الطب من مدارس حضرة المرحوم السلطان سليمان، عليه أكمل الرحمة وأتم الرضوان، عند خاله أبي بكر أفندي عليه رحمة المعيد المبدي، ثم رجع والده إلى دار إقامته وترك المترجم في دار السعادة ليفوز بسعادته، ففي السنة المذكور في غرة شوال، ابتدأ في قراءة الصرف وعلم الحال، على الحاج مصطفى أفندي القسطموني الهمام، وكان في كل فن إماماً وأي إمام! فاستعمل لعظيم المجد همته الكبرى، وأدرك في جده واجتهاده الأنجم الزهرا:
ومن يسعى إلى طلب المعالي
…
فلا عجب إذا ركب البحارا
وفي سنة ألف ومائتين وأربع وستين، من هجرة رسول الأنبياء ونبي المرسلين، أيام شيخه شيخ الإسلام وعمدة السادة وإمام الأنام، حبر الأفاضل وبحر الفضائل، عارف حكمت بك قد فتح للتلامذة باب الامتحان، في مدرسة مولانا المرحوم السلطان بايزيد خان، فكان له في ذلك
الامتحان المقام الأول، وفي الامتحان العسكري كان له المحل الأرقى الذي عليه المعول، ولا زال مجتهداً في تحصيل العلوم، مكباً على أسباب التوصل إلى دقائق المنطوق والمفهوم. وفي عام ألف ومائتين وستة وستين حصل امتحان الرؤوس الهمايوني وكان هذا الهمام، من جملة مائة وخمسة عشر عالماً من العلماء الكرام، فكان له من بينهم الفضل الأعلى والقدر الأتم الأجل الأجلى، والجواب الصائب السديد والرأي الفائق الرشيد، مع لطيف خلق يسعى اللطف لينضم إليه، وشريف صدق يقف الكمال متحيراً لديه، وجميل طبع أرق من نسيم الصبا في الصباح، وأعذب من مذاق الظفر على مناهل النجاح:
همام جد في طلب المعالي
…
ونال من العلا جل الأماني
فبدر علاه مكتمل منير
…
وشمس نداه دائمة التداني
فدام ممتعاً بدوام عز
…
وإنعام على طول الزمان
وفي شوال من السنة المذكورة، تعين في سنجاق سيروز مأموراً للامتحان في أخذ العساكر المنصورة. وفي سنة ألف ومائتين وسبع وستين قرأ علم الصرف لجم غفير في جامع المرحوم السلطان بايزيد خان ذي المقام الشهير. وفي سنة تسع وستين دخل في سلك المأمورين في الفتوى خانه الجليلة. وفي أربع وسبعين تعين نائباً في محكمة الغلطة الجميلة، فاحتاط غاية الاحتياط وعن كل مخالف تحاشى، وفي سنة ثمان وسبعين تعين نائباً في محكمة المرحوم داود باشا. وفي زمان المرحوم حسام الدين أفندي شيخ الإسلام، تعين نائباً في محكمة جلبي أفندي فأجرى الأحكام على أوفق مرام. وفي أثناء ذلك تعين مقرراً في الدرس الذي يقرأ
في حضور الحضرة السلطانية، وقد نال في قراءته الخط الوافر وتمام الالتفات من الذات الشاهانية. وصدرت الإرادة بتعيينه مفتياً في المجلس العسكري في الطوبخانة العامرة وترفيع رؤوسه إلى حركة التمشي المعروفة الباهرة. وعند رجوع الشهيد المرحوم حضرة السلطان عبد العزيز خان من سياحته الأورباوية، عينه أستاذاً لابنه يوسف عز الدين أفندي ولمن معه من أشبال الذات الشاهانية. وبعد سنتين أحسن إليه بباية أدرنه وحاز من الالتفات الزيادة. ونظراً لمحظوظية الذات الشاهانية من درسه أحسن إليه بخمسة وعشرين ألفاً غير العطية المعتادة. وبعد ثلاث سنين ونصف من إفتائه في الطوبخانة تعين مفتياً في دار الشورى العسكرية، وبقي في الشورى أربع سنين مع مشيخة أولاد الذات السلطانية، ثم انفصل حسب الإيجاب من الوظيفتين المذكورتين، وتعين عضواً في التدقيقات الشرعية فكان لوظيفته قرة عين. وبعد أربعة أشهر لما تشكلت العدلية تعين رئيساً في مجلس الحقوق باسكدار وبقي إلى سنة اثنتين وتسعين وعليه أمورها تدار، فتعين حسب الطريق قاضياً في اسلامبول، وبعد مرور ثلاثة أشهر أحيلت لعهدته باية أناطول. فترك الرياسة من نفسه، وكانت مدة قضاء اسلامبول قد ختمت فانفصل منها وجعلها من فكره كأمسه. وعند محاربة الروسية بقي مدة في قصره الموجود في الشاملجة البهية، وفي أثنائها كان يتعين تارة رئيساً وتارة عضواً في المجالس التي تشكل في باب المشيخة الإسلامية. وتعين كذلك مأموراً في المجلس الذي تشكل في سراية يلدز العالية. وفي ألف وثلاثمائة نال عطية عظمى من صاحب المقام الشامخ العظيم الشان، مولانا أمير المؤمنين السلطان الغازي
عبد الحميد خان، مع الإذن له بأداء فرض الحج الشريف، فتوجه مصحوباً بجميع عائلته إلى وطنه ومحل ولادته، لكي يغنم دعاء والدته ويدخل عليها السرور بزيارته، ومن هناك توجه إلى مكة ذات القدر السامي والاحترام فأدى فرائض الحج. ثم في السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام، توجه مع المحمل الشامي نحو المدينة المنورة لزيارة خير الأنام، فوصل إليها في عاشر المحرم سنة ألف وثلاثمائة وواحدة، وزار أشرف قبر وصلى لديه الجمعة مرتين وأثنى على الله تعالى وحمده بأعظم المحامد. ثم توجه براً مع المحمل المصري فاستقام بمدينة مصر للزيارة خمسة عشر يوماً، ثم توجه إلى الإسكندرية فمكث بها ستة عشر يوماً، ومنها ركب في الوابور النمساوي فأجرى الكرانتينة في بلدة بيرة، ثم توجه إلى أزمير واستقام بها اثنين وعشرين يوماً بكل تعظيم وتوقير، وفي ثالث شهر رجب توجه في الوابور قاصداً الآستانة العلية، وعند وصوله توجه رأساً إلى السراية السلطانية، للتشرف بتلك الرحاب، والتشكر لحضرة ذلك المقام المهاب. ثم رجع لمنزله الذي كان استأجره بجهار شنبه إلى أن مضى الشتاء، وفي الصيف عاد إلى الشاملجة لقصره، وما زال داعياً لمولانا أمير المؤمنين بدوام تأييده ودوام بقائه ونصره. وفي سنة ألف وثلاثمائة وثلاث صار بالفعل قاضي عسكر أناطول البهية، وحسب الطريق عند ختام المدة كانت الحضرة المعظمة تدعوه للعطايا الخاقانية. وفي الخامس عشر من جمادى الأولى سنة ست دعي في الساعة الخامسة ليلاً بواسطة أحد المقربين، إلى الحضور لدى سيدنا الأعظم أمير المؤمنين، فعندما دخل السراية العالية بشر بمشيخة الإسلام، فوجهت في الحال عليه بتمام الفضل وجزيل الإنعام،
وفي الصباح توجه بموكب حافل إلى باب المشيخة الإسلامية، فاستوى على منصتها وكان لها به تمام البشرى والأمنية، ودارت كؤوس التهاني بين الأنام، وأشرق بدر الأماني على كرة الإسلام. وارتشف ثغر السرور كأس حمياه
وأزاح بدر الحبور اللثام عن محياه، وشدا شادي الفخار والإرشاد معلناً بوصفه على رؤوس الأشهاد: اح بدر الحبور اللثام عن محياه، وشدا شادي الفخار والإرشاد معلناً بوصفه على رؤوس الأشهاد:
شهم له شيم يريك إذا انجلت
…
في ليلك الداجي شموساً تشرق
ومكارم فيه تدلك أنها
…
خلق وفي طبع الغمام تخلق
أولى الملا عزاً وأعلاهم علا
…
وأبرهم للمسلمين وأرفق
سبق الكرام وقد تأخر عصره
…
عن عصرهم فهو الأخير الأسبق
فهيهات لمثلي أن يستقصي صفات هذا الفرد الهمام، وإن كان البحر مداداً والشجر أقلام.
ثم أنني في عام ألف وثلاثمائة وسبعة حينما تشرفت بزيارة الدار العلية، كحلت بصري باثمد النظر لذات هذا المترجم البهية، فرأيت إنساناً قد صاغه الله من جوهر الكمال، وأفرغ عليه حلة البها والجمال، ومن عليه بالشمائل ذات الفضائل، وأجلسه على ذروة الرفعة فكان لكل سائل من أعظم الوسائل، وحينما رآني قام وبش إلي، وحياني أجمل تحية وسلم علي، وأولاني من معروف إقباله ما أولى، وحياني بما أحياني به وإن لم أكن أهلا، وسمعت منه ما يشهد له بأنه شيخ الكل في الكل، ولم يسعني حينما رأيت ما رأيت سوى بذل جهد المقل، ولم تزل تتكرر زيارتي لحضرته، وإذا مدة تساهلت بالزيارة أخجلني بشديد معاتبته، أدام الله تعالى وجوده، وأغدق عليه إنعامه وجوده، وقد كنت حين وفودي على كعبة علاه الشريفة، مدحت سيادته بهذه القصيدة فأحببت إثباتها في ترجمته المنيفة، وهي:
تجلت فلاح البدر من خلل الشعر
…
فتاة سبت عقل الشجي ولم تدر
وحدثنا عن نشرها مسك ثغرها
…
حديثاً رواه الخال عن خدها البدر
وورد محياها البديع حكى لنا
…
بأن رضاب الثغر يغني عن الخمر
عذولي لحاك الله دع عذل مغرم
…
إلى الحشر حاشا أن يفيق من السكر
وكن عاذري في حب عذراء لو ترى
…
سناها لأوضحت الدليل على عذري
بروحي فتاة حسنها فتنة الورى
…
ولكن في أحداقها آية السحر
وفي مهجتي من صدها وبعادها
…
حرارة ملتاع حكت لهبة الجمر
ممنعة ما نال منها محبها
…
وصالاً سوى ما كان في الوهم والفكر
ولو شامها في النوم مغرى بحبها
…
لأيقظه من نومه صادح القمري
أما وسيوف باترات بجفنها
…
واسمر قد يزدري طعنة السمر
وشامات حسن قد بدت فوق وجنة
…
وجيد به صدري غدا عادم الصبر
ورمان صدر قد حمته أراقم
…
تقول لحظي أنت أسود من شعري
وتيه دلال زانه ميل قامة
…
وحسن تثن قد ثنى للفنا صبري
لقد سلبت تلك الفتاة حشاشتي
…
وصدت، وسيف الصد قلب الشجي يفري
وقبل هواها كنت لا أعرف الهوى
…
ومذ شمتها أصبحت في قبضة الأسر
وذقت كؤوس الهون منذ علقتها
…
وما نلت منها بعد صبري سوى هجري
فيا طلعة البدر المنير أما كفى
…
محباً تمنى الموت من شدة الجور
لقد طال ما أولاه هجرك من عنا
…
وإن الهوى ألقاه في لجة البحر
فقالت وما تبغي، أجبت وأدمعي
…
على صفحات الخد تنهل كالقطر
أروم اقترابي منك عطفاً ومنة
…
فحسبي الذي قد ذقت من صبري المر
أجابت وقد شامت بياض عوارضي
…
أما آن بعد الشيب ترك الهوى العذري
إلام ترى حب الغواني فضيلة
…
وأنت تجيد المدح في النظم والنثر
عليك بمدح الشهم فرد أولي العلا
…
حمى من به قد لاذ من نوب الدهر
إمام الهوى مردي العدا فائق الندى
…
مهاب جليل فاضل واسع الصدر
غدا عمري الاسم والعدل في الورى
…
فمن ذا الذي يحكيه في السر والجهر
ومن لطفه لطفي تلقب ياله
…
هماماً له باللطف مستحسن الذكر
تولى على الإسلام شيخاً لفضله
…
فباهت به أيامنا سالف العصر
ملا ذكره الآفاق شرقاً ومغرباً
…
فليس له ند بشام ولا مصر
تنافس هذا العصر فيه وكيف لا
…
ينافس فيه كل عصر مدى العمر
تدانت له زهر الأماني لكي ترى
…
له الشرف الأعلى على كرة البدر
فما هو إلا مظهر الحلم والنهى
…
وما هو إلا منبع الجود والبر
سليل التقى والعدل والعلم والنقا
…
فريد الذكا والمجد والرشد والقدر
فقل مكثراً ما شئت في نظم مدحه
…
ومالك إن قصرت وجه إلى العذر
أياديه يحكي البدر جود نوالها
…
وراحته تسمو حباء على البحر
لقد فاق أهل العصر علماً وحكمة
…
وقلد جيد الدهر عقداً من الشكر
أخو همة فاقت على همم الملا
…
وأوصافه تسمو على الأنجم الزهر
أخال بأن الأرض جهلاً بقدره
…
لدى سيره لم تبدل الترب بالتبر
أرق من الماء الزلال شمائلاً
…
وألطف من جسم النسيم إذا يسري
إذا ازدان ذو قدر عظيم بقدره
…
ففيه وفي آبائه زينة الدهر
وإن مر ذكر الأكملين فذكره
…
كبسملة التالي غدت مبدأ الذكر
به ضاء وجه الدهر وازداد بشره
…
فحقاً هو الموسوم بالكوكب الدري
ودانت له الأيام تحبوه ما يشا
…
وكل ليالي عمره ليلة القدر
لقد ضاق صدر الدهر عن كتم فضله
…
وهيهات يخفى البدر في ليلة البدر
فيا سيداً ساد الورى بجميله
…
وأوصافه الحسنى وأخلاقه الغر
لك الراية البيضاء في كل موكب
…
كذا السيرة الحسناء بالحمد والشكر