الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانتفع. وفي سنة ألف ومائتين وست وثلاثين لما قدم مولانا خالد إلى دمشق، أقامه في محله لإعطاء الطريق وإرشاد المسترشدين، ثم في سنة ألف ومائتين وثمان وثلاثين حضر إلى الشام لعدم قدرته على فراق أخيه، ثم هاجر إلى مكة وأقام بها سبع سنوات، ثم رجع إلى دمشق واستقام في التكية السليمانية يرشد المريدين، إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وسبع وثمانين ودفن قرب قبر أخيه.
السلطان محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان
ولد سنة ألف ومائة وتسع وتسعين، وفي سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين جلس أخوه السلطان مصطفى على تخت الملك، وما استقر أمره ولا صفا له دهره، فأمر بقتل السلطان سليم، وبقتل المترجم ذي القدر العظيم، فنفذ أمره في الأول، وأما الثاني وهو المترجم لما جاءه جنود السلكان مصطفى الذين يريدون قتله، أراد الفرار فرشقه أحدهم بخنجر أصاب يده، فهرب وصعد على سطوح السرايا، فلما نظرته جماعة مصطفى باشا البيرقدار وكان من عصبة السلطان محمود، وضعوا له سلماً فنزل إلى صحن الدار، حيث كان البيرقدار، وعندما نظر البيرقدار إلى المترجم فرح به فرحاً عظيماً وحمد الله تعالى على خلاصه من أخيه، وصار يقبل قدميه، ثم دخل به القاعة وأجلسه على تخت السلطنة في رابع جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين، وأرسل البيرقدار المشار إليه جنداً قبضوا على السلطان مصطفى وأمر بحبسه، فلما تم جلوس السلطان محمود جعل مصطفى باشا البيرقدار صدراً أعظم، وسلمه زمام الأحكام، فأخذ يجتهد في أخذ الثأر من الذين قتلوا السلطان سليم، ثم شرع في تنظيم العسكر الجديد، وأرسل وطلب اجتماع أهل الحل والعقد من رجال الدولة، فلما حضروا أخذ يبين لهم شدة الاضطرار لتعليم العساكر صناعة الحرب وإنفاذ أوامر السلطان،
طالباً رأيهم في ذلك، فصادقوه مذعنين لأمر السلطان، وتعهدوا بالمساعدة في كل ما يؤول لنجاح المملكة، وفي الحال أخذ الصدر الأعظم في وضع ترتيبات جديدة أوجبت الملام عليه من كثيرين، وأضمروا له السوء وصاروا يطعنون فيه جهاراً ويدعونه بالكافر، وعلقوا أوراقاً في الأسواق وعلى باب داره مكتوباً فيها قد قرب موت الصدر الأعظم، وساروا بأسلحتهم يطلبون قتل العساكر الذين تعلموا التعليم الجديد، فأخذوهم بغتة وشتتوهم وأحاطوا بمنزله وطرحوا فيه النار، ووقعت أمور يطول الكلام بذكرها.
وانقسم الناس فريقين فريقاً يريد التعليم الجديد وفريقاً يكرهه، وقتل بسبب هذه الفتنة خلق كثير، وأحرقت دور كثيرة، وحاصروا الصدر الأعظم في الدار التي كان فيها، وأطلق عليهم الرصاص وقتل كثيراً منهم، ثم التهبت عليه صناديق من بارود وكانت في داره، فمات بسبب ذلك، وكان قد أخرج جواريه ونساءه قبل ذلك، فأحيلت الصدارة إلى يوسف باشا، وكان ذلك في سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، وعزل شيخ الإسلام عطا الله أفندي وأحيلت المشيخة إلى عرب زاده محمد عارف أفندي، وكتب السلطان مصطفى وهو محبوس كتاباً إلى عساكر الانكشارية يحرضهم على الغيرة وإرجاعه إلى سلطنته، فوقع ذلك الكتاب في يد بعض العلماء فذهب به إلى شيخ الإسلام، فجمع كثيراً من العلماء وأخذوا يتحدثون في عواقب هذه الأمور، ويتشاورون في إطفاء هذه الفتنة، وظهر لهم أنه إذا بقي السلطان مصطفى في قيد الحياة لا تنطفي الفتنة، فاختاروا رجلاً من بينهم يقال له منيب أفندي كان قاضي إسلامبول ليعرض على السلطان محمود رأي العلماء، ويلتمس منه قتل السلطان مصطفى، فسار منيب أفندي إلى السلطان محمود وعرض عليه ذلك، فقال السلطان محمود إن هذا أمر محال، وكيف يتصور أن يصدر أمري بقتل أخي من كوني قادراً على منعه من هذه الأعمال، وصار بينه وبين السلطان محمود محاورة
كثيرة في ذلك، فقال له منيب أفندي في أثناء تلك المحاورة: قد جاء في الحديث الشريف: إذا اجتمع خليفتان فاقتلوا أحدهما فشق ذلك على السلطان محمود، وحول وجهه إلى شباك هناك ولم يجبه بشيء لشدة أسفه على أخيه، فقال منيب أفندي إن السكوت إقرار، ففي الحال أرسل منيب أفندي إلى كبير البستانجية وقال له: إن مولانا السلطان قد صدر أمره الشريف بقتل أخيه السلطان مصطفى، فاذهب وأتم أمره، فذهب البستانجي باشي ومعه جماعة من أعوانه إلى الموضع الذي كان فيه السلطان مصطفى، فأحس بهم وعرف مقصدهم، فاختبأ بين فرش كانت هناك، فدخلوا فوجدوه وراء الفرش فقتلوه خنقاً، وكان العلماء الذين اجتمعوا عند شيخ الإسلام ينتظرون رجوع الجواب إليهم، فلما أبطأ ظنوا عدم قبول السلطان فدخلوا جميعاً على السلطان محمود ترويحاً لكلام منيب أفندي، فلما دخلوا قبل أن يبتدئوا الحديث رأى السلطان محمود من الشباك إخراج أخيه ميتاً، فتألم كثيراً والتفت إليهم وعيناه ممتلئتان دموعاً، فعزوه ودعوا له بطول العمر، وكان ذلك في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، ومدة سلطنة مصطفى سنة وشهران وعمره ثلاثون سنة.
ولما استقرت السلطة للسلطان محمود كانت أمور الدولة في غاية الارتباك، وكانت عساكر الروسية تتقدم إلى جهة الطونة بسرعة، فبعث جيشاً لمصادمتهم فلم يجد نفعاً، فطلبت فرانسا أن تتوسط في الصلح، فرفض السلطان مداخلتها لتأثره من الشروط التي عقدها نابليون مع الروسية سراً في تيلسيت، التي مضمونها اقتسام أوربا بينهما مع بلاد الدولة العلية، واستمر الحرب، مع كون الغلبة على العثمانيين، إلى أن وقع خلاف بين فرانسا وروسيا
ونشرت بينهما راية الحرب، وذلك سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين، فالتزمت الروسيا أن تخرج عساكرها من حدود الدولة العلية، وعقدت مع الباب العالي صلحاً موافقاً للدولة جداً، فاغتنم السلطان محمود فرصة هذا الصلح لتسكين الثورات في ولايتي بغداد وايدين وغيرهما، فإنه في سنة ألف وما وست وعشرين أظهر سليمان باشا والي بغداد العصيان، فأرسل إليه السلطان محمود من قتله.
وفي عام ألف ومائتين وسبعة وثلاثين تجاهر اليونان في المورة بالعصيان على الدولة، وكانوا يهجعون بمراكبهم على سواحل البحر، فيقتلون ويسلبون وينهبون ويأسرون، وبيان ذلك مع الاختصار أن بلاد المورة وهي قطعة من بلاد الروملي كانت ولاية من ولايات الدولة العلية، فلما اقتضى نظر السلطان محمود قتل الينجارية وتبديل وجاقهم بالعساكر النظامية الموجودة الآن، ضعفت عساكر الدولة وقلت، وطمع فيها الأعداء من كل جانب، فحاربها الروس وملكوا بلاداً من أراضيها، وممن ثار عليها في تلك المدة أهل المورة، وطردوا ولاة الدولة العلية، وقتلوا أكثر المسلمين الذين كانوا في تلك البلاد متولدين ومتوطنين منذ قورن طويلة، وكان المسلمون هم أهل الأراضي والأملاك والمزارع، وكانت نصارى المورة بصفة خدامين عندهم، فلا زال أمر النصارى يتقوى بواسطة الكنائس ورؤسائها لما يجتمعون في أعيادهم ومواسمهم، وينصح بعضهم لبعض بالاستقلال، وشرعوا في تعليم أولادهم الحروب والرمي بالرصاص، وأتقنوا أسباب الشجاعة بأنواعها سراً، وتعلموا الصنائع التي يتولد منها الغنى، فأرسلوا أولادهم إلى بلاد أوروبا لتعليم الصنائع، والمسلمون في غاية الغفلة والبله، يتركون تربية أولادهم للنساء والمخاصي المعبر عنهم بالأغوات، فلذلك تنشأ أولادهم، عقولهم بين عقول النساء والمخاصي، وما ألذ وأحسن ما قاله الشاعر المتنبي في هذه المناسبة حيث قال:
لقد كنت أحسب قبل الخصي
…
أن الرؤوس مقر النهى
فلما تبين لي عقله
…
علمت أن النهى كلها في الخصى
ولما ظهر للسلطان محمود ما حصل لمسلمي المورة من القتل والسبي والنهب إلا من فر منهم وهاجر إلى بلاد الإسلام، جهز جيشاً عرمرماً من عنده، وأمر محمد علي باشا والي مصر بتجهيز جيش آخر من عنده، فاجتمع الجيشان في بلاد المورة تحت قيادة ولده إبراهيم باشا، يزيد على خمسة وعشرين ألفاً، وعمارة بحرية، فأيس الأروام من النجاة ونوال الاستقلال، فاستنجدوا بالدول الأروباوية، فبادرهم كل من فرانسا وانكلترا بتوسط الصلح، فلم يقبل السلطان سؤالهما، فعند ذلك أطلق كل منهما نار حربه على عمارتي الدولة ومحمد علي فأحرقوهما، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وإحدى وأربعين، ولما بلغ السلطان محمود ذلك التجأ لقبول ما اشترطاه من إبطال الحرب واستقلال الأروام. وكان أخذ المورة من يد المسلمين هو أكبر أسباب خروج الروملي بأجمعه من الدولة العلية، وفي سنة إحدى وأربعين أيضاً شرع السلطان محمود في تعليم بعض العساكر التعليم الجديد، وشرع يدبر تدمير الانكشارية وأبطال وجاقهم، فأبرز أمراً سلطانياً يتضمن القدح في وجاق الانقشارية، وبيان الخلل الواقع منهم، وتقلبهم على الدولة، وقتلهم بعض السلاطين، وأمر سليم باشا الصدر الأعظم أن يجمع العلماء في بيت شيخ الإسلام ويتلو عليهم الأمر الشاهاني ففعل ذلك، فأجابوا بالامتثال بما يصدر به الأمر السلطاني، وتعهدوا بإنفاذه، وكان مع الحاضرين جماعة يميلون إلى الانقشارية، فتعصبوا لهم سراً، وأخبروهم بما صار عليه الاتفاق، فهجموا على بيت الصدر الأعظم وبعض العظماء من رجال الدولة، وأخذوا ينادون في شوارع إسلامبول ويقولون اليوم قتل العلماء ورجال الدولة وكل من كان السبب في وضع النظام الجديد، ويقتلون كل من صادفوه منهم، وينهبون البيوت ويضرمون فيها النار، ففر الصدر الأعظم منهم، وجاء إلى السلطان محمود وأخبره بتلك الحوادث، فأمره أن يجمع الطوبجية وسائر أهل الإسلام
أمام باب السرايا، فاجتمع في ذلك النهار جمع غفير من العلماء ورجال الدولة، ينتظرون خروج السلطان إليهم، فلما خرج إليهم أخذ يحدثهم بكلام يهيج به نخوتهم، فأقسم جميعهم على أنهم يهرقون دماءهم في صيانة أوامره وتنفيذها، والتمسوا منه إخراج الصنجق الشريف النبوي ليهجموا على العصاة، فأراد السلطان أن يكون معهم، فتوسلوا إليه أن لا يتنازل إلى ذلك، وأرسلوا منادين في شوارع المدينة ويدعون أهل الإسلام للاجتماع تحت الصنجق الشريف، فلما علم بعض الانقشارية بذلك أرسلوا أناساً من جماعتهم ينادون لاجتماع الانقشارية، فلما قرعت أصوات المنادين آذان أهل الإسلام أسرعوا إلى فسحة السرايا أفواجاً أفواجاً، ففرقوا عليهم السلاح، وسلم السلطان الصنجق الشريف لشيخ الإسلام قاضي زاده طاهر أفندي وعاد إلى كرسيه الملوكي، وكان يشرف على الجميع أمام السرايا، وسار سليم باشا الصدر الأعظم أمام تلك الجموع التي كانت أكثر من خمسين ألفاً، وشنوا الغارة على الانقشارية صارخين الله أكبر على الأشقياء، وهجموا عليهم وأطلقوا المدافع والرصاص، وكان يوماً مهولاً عظيماً، فقتلوا منهم نحو عشرة آلاف، والباقون فروا إلى قشلهم وتحصنوا فيها، فهجم عليهم العساكر والأهالي وطرحوا فيها النار فاحترق كثير منهم، ومن بقي ولوا الأدبار، ثم قبضوا على كثير منهم فقتلوهم وطرحوهم في فسحات ميدان، وبعد ذلك دعا السلطان إليه العلماء ووكلاء الدولة وأخذ يريهم أثواب السلاطين العظام الملطخة بالدماء، الذين قتلهم العصاة الانقشارية طالباً ثمن دم السلاطين، فأجاب العلماء أن ثمن دم كل سلطان خمسة وعشرون ألف نفس، فصدرت الأوامر بتدمير الانقشارية في الآستانة العلية وفي جميع الجهات، فقتل منهم عدد كثير وارتاحت الدولة والناس من مظالمهم،