الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يسأل أحدًا من الخلق لا رقيةً ولا غيرها ..
- وإن كانت الرقية يُدعى بها غير الله ويطلب الشفاء من غيره فهذا هو الشرك الأكبر لأنه دعاء واستغاثة بغير الله.
فافهم هذا التفصيل وإياك أن تحكم على الرقى بحكم واحد مع تفاوتِها في أسبابِها وغايتها"
(17)
.
وهذا التفصيل من السعدي رحمه الله هو فحوى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
مناقشة الأقوال المرجوحة:
أولًا: مناقشة مذهب الجمع:
- أما ما استدل به أصحاب القول الأول فمتعقب بما يلى:
1 -
أن ما استدلوا به من الأحاديث إنما هو في الاسترقاء، وفرق بين فعل الرقية وبين الاسترقاء الذي هو طلب الرقية -كما تقدم-.
2 -
وأما التفريق بين الرقى والكي وبين سائر الأدوية، فقد ردَّ عليه القرطبي فقال: "وهذ فاسد من وجهين:
أحدهما: أن أكثر أبواب الطب موهومة كالكى فلا معني لتخصيصه بالكى والرقى.
وثانيهما: أن الرقى بأسماء الله تعالى هو غاية التوكل على الله تعالى فإنه التجاءٌ إليه، ويتضمن ذلك رغبته له، وتبركًا بأسمائه، والتعويل عليه في كشف الضر والبلاء، فإن كان هذا قادحًا في التوكل فليكن الدعاء والأذكار قادحًا في التوكل، ولا قائل به، وكيف يكون ذلك؟ ! وقد رقى النبى صلى الله عليه وسلم واسترقى ورقاه
(17)
القول السديد (42).
جبريل وغيره، ورقته عائشة وفعل ذلك الخلفاء والسلف، فإن كانت الرقى قادحة في التوكل ومانعةً من اللحوق بالسبعين ألفًا، فالتوكل لم يتم للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحدٍ من الخلفاء، ولا يكون أحدٌ منهم في السبعين ألفًا، مع أنهم أفضل من وافى القيامة بعد الأنبياء ولا يتخيَّل هذا عاقل"
(18)
.
- وأما ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني فإنه ليس فيه إعمال لجميع الأدلة، وإجاباتُهم على حديث السبعين ألفًا يمكن الإيراد عليها كما يلى: -
- أما ما ذهب إليه المازري والطبري وابن قتيبة وغيرهم في تأويل حديث "ولا يسترقون" فإنه متعقب بما قاله القاضى عياض عنه: "ولا يستقيم هذا التأويل على مساق الحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذمّ هنا من قال بالكى والرقى ولا كفرهم كما جاء في حديث الاستمطار بالنجوم .. وإنما أخبر أن هؤلاء لهم مزية وفضيلة بدخولهم الجنة بغير حساب .. وأخبر أن لهؤلاء مزيد خصوص على سائر المؤمنين وصفات تميَّزوا بِها ولو كان على ما تأوّله قبلُ لما اختص هؤلاء بِهذه المزية لأن تلك عقيدة جميع المؤمنين ومن اعتقد خلاف ذلك كفر"
(19)
.
كما لا يستقيم القول بأن المكروه منها ما كان بغير أسماء الله تعالى لأن هذا محرم وليس مكروهًا فقط، وقد شذ القرطبي رحمه الله عندما قال: "المقصود: اجتناب رقى خارج عن القسمين: كالرقى بأسماء الملائكة والنبيين والصالحين، أو بالعرش والكرسى والسماوات والجنة والنار وما شاكل ذلك مما يعظم كما قد يفعله كثير ممن يتعاطى الرقى.
(18)
المفهم (1/ 464).
(19)
كتاب الإيمان من إكمال المعلم للقاضي عياض (2/ 898) بتصرف يسير، وانظر: المفهم (1/ 463)، فتح الباري (10/ 211).
فهذا القسم ليس من قبيل الرقي المحظور الذي يعم اجتنابه، وليس من قبيل الرقى الذي هو التجاء إلى الله تعالى وتبرك بأسمائه، وكأن هذا القسم المتوسط يُلحق بما يجوز فعله، غير أن تركه أولى"
(20)
.
كما لا يستقيم أيضًا القول: بأن المكروه منها ما صَاحَبَه اعتقاد نفعها لا محالة لأن هذا فيه التفات إلى السبب، والالتفات إلى السبب شرك أصغر وقد يغلظ حسب اعتقاد صاحبه.
- وكذلك ما ذهب إليه الداوودي وابن عبد البر وغيرهما مِنْ حمل حديث: "ولا يسترقون" على ما كان في حال الصحة قبل نزول البلاء، متعقب بما سبق بيانه في كون الرقى منها ما يكون قبل نزول البلاء ومنها ما يكون بعد نزوله وسبقت الإشارة إلى أدلة ذلك.
ولذلك قال الحافظ ابن حجر: وهذا "معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء"
(21)
.
وقال النووي: "قال كثيرون أو الأكثرون: يجوز الاسترقاء للصحيح لما يُخاف أن يغشاه من المكروهات والهوام"
(22)
، ثم استدل رحمه الله ببعض الأحاديث التي سبق ذكرها.
- وكذلك ما ذهب إليه الحليمى من حمل الحديث على قوم غفلوا عن أحوال الدنيا فهم لا يعرفون الاكتواء أو الاسترقاء ..
فإنه يَرِدُ عليه أن قوله "ولا يسترقون" يدل على أنَّهم يعرفون الرقى
(20)
المفهم (1/ 466).
(21)
الفتح (10/ 211).
(22)
مسلم بشرح النووى (14/ 420).
لكنهم لا يطلبونَها.
وعلى فرض أنَّهم لا يعرفونَها فإنَّهم لا يثابون على تركها لأن من شرط الثواب على الأعمال: الإرادة والقصد، فترك الشىء لعدم العلم به أو القدرة عليه ليس فيه فضل ومزيَّة بخلاف ترك الشيء احتسابًا للأجر وطلبًا للثواب فإنه يثاب عليه، ومثل ذلك من ترك المعصية لعدم العلم بِها أو القدرة عليها فإنه ليس بمنْزلة من تركها خوفًا من الله وطمعًا في ثوابه، والله أعلم.
- وأما ما ذهب إليه الخطابي وغيره من أن المراد من قوله "ولا يسترقون": ترك الرقى توكلًا على الله .. فإنه متعقب بأن فعل الأسباب -والتي من بينها الرقى- لا ينافي التوكل.
ثانيًا: مناقشة مذهب النسخ:
- وأما مذهب النسخ فيُجاب عنه بما يلى:
1 -
أن النسخ لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع وهو هنا غير متعذر وقد سبق بيان أوجه الجمع.
2 -
وأما ما ورد في بعض الأحاديث بلفظ "رخص" فليس معناه أن هذه الرقية التي رُخص فيها كان منهيًّا عنها ثم أُجيزت، وإنما معناه أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عنها فأذن بِها ولو سُئل عن غيرها لأذن فيه، قال النووي رحمه الله عند حديث "رخص في الرقية من العين والحمة والنملة":"ليس معناه تخصيص جوازها بِهذه الثلاثة، وإنما معناه: سُئل عن هذه الثلاثة فأذن فيها ولو سُئل عن غيرها لأذن فيه وقد أذن لغير هؤلاء، وقد رقى هو صلى الله عليه وسلم في غير هذه الثلاثة، والله أعلم"
(23)
.
3 -
وأما ما ورد من كونه صلى الله عليه وسلم نَهى عن الرقى ثم أجازها فليس المنهى عنه
(23)
مسلم بشرح النووي (14/ 435).
هو الرقى الشرعية وإنما المنهي عنه ما كان شركًا أو فيه شرك أو كان غير مفهوم المعني ويدل على ذلك ما يلي:
أ - أنه صلى الله عليه وسلم قال: في آخر الحديث الذي فيه: "إنك نَهيت عن الرقى" وفي طريق آخر: "نَهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى" قال في آخره: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل" وفي رواية "فلينفعه".
ففى هذا بيان منه صلى الله عليه وسلم إلى أن المنهى عنه من الرقى ليس هو الرقى الشرعية التي فيها نفع وإحسان إلى الغير، وإنما المنهى عنه نوع آخر من الرقى وهو الرقى الشركية كما يدل على ذلك الحديث الآتي.
ب - قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عوف بن مالك الأشجعى رضى الله عنه: "اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"
(24)
.
وعلى هذا يُحمل حديث: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك"
(25)
.
قال الخطابي: "فأما الرقى المنهى عنه هو ما كان منها بغير لسان العرب فلا يُدرى ما هو ولعله قد يُدخله سحرًا أو كفرًا، وأما إذا كان مفهوم المعني وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به، والله أعلم"
(26)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا نَهى العلماء عن التعازيم والأقسام الى يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغره التى تتضمن الشرك
(24)
سبق تخريجه ص (147).
(25)
أخرجه عن عبد الله بن مسعود: أبو داود (عون 10/ 262) ح (3877) وابن ماجه (2/ 1166) ح (3530) وأحمد في مسنده (5/ 219) ح (3615) والحاكم في مستدركه (4/ 463) ح (8290) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبى. وأخرجه البغوى في شرح السنة (12/ 156) ح (3240) وابن حبان في صحيحه (13/ 456) ح (6090) وحسَّن إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند.
(26)
معالم السنن (4/ 209).