الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث الترجيح
الذي يظهر رجحانه -والله تعالى أعلم- هو مذهب الجمع لأن إعمال الأدلة كلها أولى من إهمال شيء منها، ثم إن أقرب الأقوال في مذهب الجمع هو القول الأول وهو أن الاختلاف في عدد الأجزاء إنما يكون على حسب حال الرائي، فكلما كان الرائي أصدق حديثًا وأعظم ديانهً وأحسن يقينًا وأخلص نية كانت رؤياه أقرب الأعداد المذكورة إلى النبوة، وقد يشهد لهذا القول: قوله صلى الله عليه وسلم: "أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا"
(1)
.
ومما يؤيد هذا القول -أيضًا- أنه صلى الله عليه وسلم أبهم العدد في بعض الروايات، كما وقع ذلك عند الترمذي من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما سُئل عن المبشرات:"رؤيا المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة"
(2)
فهذا يدل على أن العدد يختلف باختلاف حال الرائي لأنه أطلق الجزء ولم يقيده بعدد، فلو كان هناك عدد يستوي فيه جميع الناس لذكره النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
- أما ما ذهب إليه ابن بطال -وهو القول الثاني- من اعتبار حال الرؤيا ظهورًا وخفاءً، فالظاهرة الجلية أقرب إلى النبوة -في عدد الأجزاء- من المرموزة الخفية فقول بعيد لأن هذا التقسيم يدخل فيه غير المسلم، والروايات الواردة أكثرها فيها تقييد ذلك بالمؤمن أو المسلم، فإذا دخل الكافر في هذا التقسيم فكيف تكون رؤياه من أجزاء النبوة؟ علمًا أن رؤياه قد تصدق، كما في رؤيا
(1)
تقدم تخريجه ص (577).
(2)
أخرجه الترمذي (تحفة 6/ 551) ح (2374) وقال: هذا حديث صحيح غريب، وصحح إسناده الألباني كما في صحيح سنن الترمذي (2/ 258) ح (1853).
الملك الذي فسرها له يوسف عليه السلام
(3)
، ثم ما علاقة ظهور الرؤيا وخفائها بأجزاء النبوة؟ ! .
- وأما القول الثالث - وهو أن التجزئة باعتبار طرق الوحي ففيه تكلف لا يخفى ولذلك ردَّه أبو العباس القرطبي فقال: لا يخفى ما في هذا الوجه من البعد والتساهل، فإن تلك الأعداد إنما هى أجزاء النبوة، وأكثر الذي ذكره -من أحوال الوحي- إنما هى أحوال لغير النبوة: ككونه يعرف الملك أو لا يعرفه، أو يأتيه على صورته أو على صورة آدمي، ثم مع هذا التكلف لم يبلغ عدد ما ذكر ثلاثين، فضلًا عن سبعين
(4)
.
- وأما القول الرابع -والذي ذهب إليه ابن الأثير وغيره- وهو اعتبار مدة وحي الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في منامه ونسبتها إلى مدة نبوته فمردود من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لم يثبت من طريق صحيح أن مدة رؤياه صلى الله عليه وسلم قبل النبوة كانت ستة أشهر.
قال الخطابي بعد ذكره لهذا القول: "قلت: وهذا وإن كان وجهًا قد تحتمله قسمة الحساب والعدد، فإنَّ أول ما يجب فيه أن يثبت ما قاله من ذلك خبرًا ورواية، ولم نسمع فيه خبرًا، ولا ذكر قائل هذه المقالة فيما بلغني عنه في ذلك أثرًا، فهو كأنه ظن وحسبان، والظن لا يغني من الحق شيئًا، ولئن كانت هذه المدَّة محسوبة من أجزاء النبوة على ما ذُهب إليه من هذه القسمة، لقد كان يَجب أن تُلحق بِها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه في منامه في تضاعيف أيام حياته، وأن تلتقط فتُلفَّق وتزاد في أصل الحساب، وإذا صرنا إلى هذه القضية
(3)
انظر التمهيد لابن عبد البر (1/ 285).
(4)
انظر المفهم (6/ 16) فتح الباري (12/ 366).