الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث الترجيح
أقوى الأقوال -والله تعالى أعلم- هو مذهب الجمع وهو القول بالامتحان، لأنه هو الذي تجتمع فيه الأدلة وتأتلف فيه النصوص، ويليه في القوة: القول بأنهم في الجنة، وأما بقية الأقوال فضعيفة.
وقد أورد ابن عبد البر على القول بالامتحان وأحاديثه اعتراضًا فقال: "وجملة القول في أحاديث هذا الباب كلها ما ذكرت منها وما لم أذكر، أنَّها من أحاديث الشيوخ وفيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء، وهو أصل عظيم، والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضعف في العلم والنظر، مع أنه عارضها ما هو أقوى منها"
(1)
.
وقال أيضًا: "أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب لأن الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء وكيف يُكلفون دخول النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين؟ والله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها"
(2)
.
وأورد أبو عبد الله القرطبي حديث الامتحان ثم قال: "ويضعفه من جهة المعنى أن الآخرة ليست بدار تكليف وإنما هي دار جزاء: ثواب وعقاب"
(3)
.
والجواب عن هذا الاعتراض من وجوه
(4)
:
(1)
التمهيد (18/ 130)
(2)
نقل ذلك عنه ابن القيم في طريق الهجرتين (706) وابن كثير في تفسيره (3/ 51).
(3)
التذكرة (2/ 322).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (4/ 281، 303)(24/ 373) طريق الهجرتين (706 - 710) تفسير ابن كثير (3/ 51 - 52) العواصم والقواصم لابن الوزير (7/ 257) فتح البارى (3/ 246).
الوجه الأول: أنه لا يُشترط في الرواة أن يكونوا أئمة فقهاء، وأهل العلم لم يتفقوا على إنكارها بل ولا أكثرهم، وإن أنكرها بعضهم فقد صححها أو بعضها غيرهم
(5)
، ثم إن حديث الأسود بن سريع أجود من كثير من الأحاديث التي يُحتج بِها في الأحكام ولهذا رواه الأئمة كأحمد وإسحاق وعلي ابن المديني، كما أن أبا الحسن الأشعري حكى عن أهل السنة والحديث القول بالامتحان مما يدل على أنَّهم أخذوا بموجب هذه الأحاديث.
الوجه الثاني: أن قوله: "وهو أصل عظيم والقطع فيه .. " يُجاب عنه بأن القطع كذلك بتكذيب هذه الأحاديث ورواتِها عقلًا وسمعًا فيه ضعف لا يخفى، وقد نَهى النبى صلى الله عليه وسلم عن تكذيب أهل الكتاب لئلا يكون ما رووه حقًّا، وهو هنا من باب أولى
(6)
.
الوجه الثالث: أن قوله إن أحاديث الامتحان قد عارضها ما هو أقوى مجيئًا منها إشارة منه إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" وهذا غير مسلَّم فإن أحاديث الامتحان ليست معارضة لِهذا الحديث وإنما هي زيادة عليه وبيان وتفسير له، وفرق بين المعارضة والزيادة والبيان.
وكذلك القول في حديث سمرة بن جندب في رؤية أولاد المشركين حول إبراهيم عليه السلام في الجنة فإنه غير معارض لأحاديث الامتحان لأن أولئك الأطفال ممن علم الله سعادتَهم ونجاتَهم في ذلك الامتحان.
الوجه الرابع: أن التكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء والقرار وهي الجنة أو النار وأما قبل ذلك فلا ينقطع كما في عرصات القيامة وكما في البرزخ
(5)
انظر لزامًا ص (516، 517) من هذا البحث.
(6)
وهذا بطبيعة الحال إذا لم يكن هناك حجة قوية على القطع برد الخبر، أما إن وجدت فلا إشكال.
وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بسؤال الملكين في البرزخ فيُقال لأحدهم: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وهذا تكليف.
وأما في عرصات القيامة فإن قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}
(7)
صريح في وقوع التكليف في الآخرة لأن الله تعالى يدعو الخلائق إلى السجود فيسجد المؤمنون ويُحال بين الكفار وبين السجود لأَئهم كُلِّفوا به في الدنيا وهم قادرون عليه فامتنعوا، وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله:{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}
(8)
،
(9)
.
الوجه الخامس: أن قول ابن عبد البر: وكيف يُكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، جوابه من أربعة وجوه:
أحدها: أن ذلك ليس تكليفًا بما ليس في الوسع، وإنما هو تكليف بما فيه مشقة شديدة، وهو كتكليف بنى إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه نارًا، وكذلك فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم فمنهم الناجي، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس في وقوع الامتحان بالنار بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.
والثاني: أنَّهم لو أطاعوه ودخلوها لم تضرهم وكانت بردًا وسلامًا، فلم يُكلفوا بممتنع ولا بما لا يُستطاع.
(7)
سورة القلم، آية (42).
(8)
سورة القلم، آية (43).
(9)
انظر للاستزادة من الأدلة على هذا: الإبانة لأبى الحسن الأشعري (138) مجموع الفتاوى (24/ 373) طريق الهجرتين (708 - 709) تفسير ابن كثير (3/ 51 - 52).