الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واضح لا يخفى"
(34)
.
وقال ابن عبد البر: "وأما قوله في الآية الأخرى {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} فالإجماع والاتفاق قد بيَّن المراد بأنه معبود من أهل الأرض فتدبر هذا فإنه قاطع إن شاء الله"
(35)
.
الشبهة الثالثة:
استدلوا أيضًا بقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}
(36)
.
والجواب: أن الآية ليس معناها أن الله تعالى في كل مكان بذاته بالإجماع كما حكاه ابن كثير رحمه الله فإنه قال: "اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال، بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية الأول القائلين -تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا- بأنه في كل مكان حيث حملوا الآية على ذلك فالأصح من الأقوال: أنه المدعو الله في السموات وفي الأرض، أي: يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض ويسمونه الله ويدعونه رغبًا ورهبًا إلا من كفر من الجن والإنس"
(37)
، وإلى هذا المعنى ذهب أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره
(38)
.
الشبهة الرابعة:
كما استدلت الحلولية بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}
(39)
(34)
تأويل مختلف الحديث (253).
(35)
التمهيد (7/ 134).
(36)
سورة الأنعام. آية (3).
(37)
تفسير القرآن العظيم (2/ 199) وانظر: المختار من الإبانة لابن بطه (143).
(38)
انظر: الرد على الزنادقة والجهمية (94)، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (90) مجموع الفتاوى (11/ 250)
(39)
سورة ق. آية (16).
وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}
(40)
فقالوا: إن معنى القرب في هاتين الآيتين قرب ذات الله تعالى فالله قريب بذاته من حبل الوريد وفي هذا دليل على أن الله تعالى في كل مكان بذاته وأنه قريب من كل شيء بذاته وأن ذات الرب في قلب كل أحد.
ولا ريب أن تفسيرهم للقرب في هاتين الآيتين بقرب الذات واستدلالهم بذلك على الحلول والاتحاد في غاية الضعف بل هو باطل يتضح بطلانه من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن الإجماع منعقد على بطلان الحلول والاتحاد وأنَّهما منفيان عن الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما أن تكون ذات الرب في قلب كل أحد كافر أو مؤمن فهذا باطل، لم يقله أحد من سلف الأمة ولا نطق به كتاب ولا سنة، بل الكتاب والسنة وإجماع السلف مع العقل يناقض ذلك"
(41)
.
الوجه الثاني: أن الذين يقولون: إنه في كل مكان أو أنه قريب من كل شىء بذاته: لا يخصون بذلك شيئًا دون شيء ولا يمكن مسلمًا أن يقول: إن الله قريب من الميت دون أهله ولا أنه قريب من حبل الوريد دون سائر الأعضاء.
وكيف يصح هذا الكلام على أصلهم وهو عندهم في جميع بدن الإنسان؟ أو قريب من جميع بدن الإنسان، أو هو في أهل الميت كما هو في الميت؟ فكيف يقول: ونحن أقرب إليه منكم إذا كان معه ومعهم على وجه واحد؟ وهل يكون أقرب إلى نفسه من نفسه؟
(40)
سورة الواقعة. آية (85).
(41)
شرح حديث النزول (375).
الوجه الثالث: أن سياق الآيتين: يدل على أن المراد بِهما الملائكة فإنه قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
(42)
.
فقيد القرب بِهذا الزمان، وهو زمان تلقى المتلقيين، قعيد عن اليمين، وقعيد عن الشمال وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان كما قال:{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ومعلوم أنه لو كان المراد قرب ذات الرب: لم يختص ذلك بهذه الحال ولم يكن لذكر القعيدين والرقيب والعتيد معنى مناسب، وكذلك قوله في الآية الأخرى:{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}
(43)
فلو أراد قرب ذاته لم يخص ذلك بِهذه الحال.
الوجه الرابع: أنه قال في الآية السابقة {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} فإن هذا إنما يقال إذا كان هناك من يجوز أن يبصر في بعض الأحوال ولكن نحن لا نبصره، والرب تعالى لا يراه في هذه الحال لا الملائكة ولا البشر
(44)
.
وكما لا يجوز أن يكون المراد بِهذا القرب: قرب ذات الرب جلَّ وعلا فكذلك لا يجوز أن يكون المراد بِهذا القرب: قرب الرب الخاص كما في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} فإن ذلك إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبده، وهذا المحتضر قد يكون كافرًا أو فاجرًا أو مؤمنًا أو مقربًا ومعلوم أن المكذب أو الكافر لا يخصه الرب بقربه من دون من حوله، وقد يكون حوله مؤمنون
(45)
.
(42)
سورة ق. آية (16، 17، 18).
(43)
سورة الواقعة. آية (83، 84، 85).
(44)
انظر شرح حديث النُّزول (370).
(45)
انظر: شرح حديث النُّزول (373).
إذا تبين هذا وأن القرب في الآيتين السابقتين ليس المراد به قرب ذات الله تعالى وليس هو القرب الخاص فماذا يكون إذًا؟ للعلماء في ذلك قولان:
أحدهما: أن المراد بالقرب في الآيتين -السابقتين- قربه إليهم بالملائكة كما تقدم.
والثاني: أن المراد بالقرب هنا العلم أو العلم والقدرة، وإليه ذهب الطلمنكى
(46)
والبغوي
(47)
وغيرهما.
وأما الأول فقد رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية -كما تقدم- وتلميذه ابن القيم واستدلا على ذلك بأدلة كثيرة
(48)
.
وقال شيخ الإسلام بعد أن فسر القرب بقرب الملائكة: "وهذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف"
(49)
.
وممن ذهب إلى هذا القول من المفسرين الطبري وابن كثير عليهما رحمة الله، قال الطبري في قوله تعالى:{ .. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} : "يقول: ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون"
(50)
.
وقال ابن كثير: "وقوله عز وجل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} يعني: ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، ومن
(46)
انظر شرح حديث النُّزول (366، 367).
(47)
انظر تفسير البغوي (4/ 291).
(48)
انظر: شرح حديث النزول (355، 366، 367)، مجموع الفتاوى (15/ 128)، مختصر الصواعق (2/ 458)، علو الله على خلقه للدويش (269 - 274).
(49)
شرح حديث النُّزول (355).
(50)
جامع البيان في تأويل القرآن (11/ 664).
تأوَّله على العلم فإنَّما فر لئلا يلزم حلول أو اتِّحاد وهما منفيان بالإجماع، تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنَّما قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} كما قال في المحتضر: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} يعني ملائكته. وكما قال تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
(51)
فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن بإذن الله عز وجل"
(52)
.
وهذا القول -وهو أن المراد بالقرب هنا قرب الملائكة- هو الذي يظهر رجحانه لدلالة السياق عليه. والله تعالى أعلم.
(51)
سورة الححر. آية (9).
(52)
تفسير القرآن العظيم (4/ 345).