الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني مذاهب العلماء تجاه هدا التعارض
سلك أهل العلم حيال هذا التعارض عدة مذاهب فمن صائرٍ إلى الجمع، ومن قائل بالنسخ، ومن مائل إلى الترجيح وإليك بيان ذلك.
أولًا: مذهب الجمع:
أما مذهب الجمع فقد صار إليه عدد كبير من أهل العلم كالطبري والطحاوي وابن قتيبة، وابن خزيمة، والخطابي، والبيهقي، وأبي عمرو بن الصلاح، والباقلاني، وابن بطال، والنووي، وابن رجب، وابن القيم، وابن مفلح، وابن حجر، والشوكاني، وصديق حسن خان، والمباركفوري، وأحمد شاكر، وغيرهم كثير.
ولكن هؤلاء مع أنَّهم قائلون بالجمع إلا أنَّهم لم يتفقوا على مسلك واحد في الجمع بل تنوعت مسالكهم وأهم هذه المسالك ما يلي:
المسلك الأول: "أن المراد بنفى العدوى نفيها جملة وحمل الفرار من المجذوم، على رعاية خاطر المجذوم. لأنه إذا رأى الصحيح البدن السليم من الآفة تعظم مصيبته وتزداد حسرته ونحوه حديث "لا تديموا النظر إلى المجذومين"
(1)
فإنه محمول على هذا المعنى"
(2)
.
المسلك الثاني: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في
(1)
أخرجه عن ابن عباس ابن ماجه، (2/ 1172)، ح (3543). وأحمد، (3/ 343)، ح (2075). والطبرى في تَهذيب الآثار (1/ 17) ح (45) وضعف إسناده الحافظ في الفتح (10/ 159)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 101) رواه الطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات. وصحح إسناده أحمد شاكر وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، (3/ 51)، ح (1064).
(2)
فتح الباري (10/ 160).
شىء بل هو لأمر طبيعى وهو انتقال الداء من جسدٍ لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم الرائحة، ولذلك تجد كثيرًا من الأمراض تنتقل من السقيم إلى الصحيح بكثرة المخالطة والمجالسة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" فإنه يريد بذلك النهى عن الخروج من البلد الذي وقع فيه المرض كالطاعون خوفًا من العدوى وظنًّا منه أن الفرار من قدر الله تعالى ينجيه منه.
وهذا المسلك هو مسلك ابن قتيبة
(3)
والخطابي
(4)
عليهما رحمة الله.
المسلك الثالث: "أن قوله "لا عدوى" نَهي لا نفي. والمعنى: لا يُعدِ بعضكم بعضًا. أي لا تتعرضوا لذلك بل اتقوه، واتقوا مكانه.
وهذا كقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
(5)
. أي لا يكن ذلك منكم.
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"
(6)
وقوله: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس"
(7)
وأشباه هذا كثير.
ويصحح هذا الجواب آخر الحديث، فقوله:"لا طيرة" أي لا تشاؤم،
(3)
في تأويل مختلف الحديث (96) وانظر فتح الباري (10/ 160).
(4)
في أعلام الحديث (3/ 2139) وله قول آخر كما في معالم السنن (4/ 216) مماثل للمسلك السادس الآتي قريبًا إن شاء الله تعالى.
(5)
سورة البقرة، آية (197).
(6)
أخرجه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت وابن عباس (2/ 784) ح (2340، 2341). وأخرجه أحمد عن ابن عباس (4/ 310) ح (2867). وضعف إسناده أحمد شاكر وصحح إسناد عبادة بن الصامت عند ابن ماجه. وصححه الألباني وأطال النفس في الكلام عليه في إرواء الغليل (896)(3/ 408).
(7)
أخرجه البخاري، (1/ 212)، ح (561). ومسلم واللفظ له، (6/ 359)، ح (827). كلاهما عن أبي سعيد الخدري.
معناه: لا تتطيروا ولا يقع منكم ذلك، وليس المعنى أن الطيرة مفقودة في الناس.
وكذا "لا هامة" وهى طير معروف.
"ولا صفر" وهو الشهر المعروف، والمراد لا تعتقدوا في شهر صفر ولا في الهامة ما كان الجاهليون يفعلونه ويعتقدونه، وليس بممكن أن يكون نفيًا"
(8)
.
المسلك الرابع: تخصيص عموم حديث "لا عدوى" بما ورد إثبات العدوى فيه من الأحاديث كالجذام وغيره فيكون معنى قوله: "لا عدوى" أى إلا من الجذام والبرص والجرب مثلًا، وقد نسب ابن حجر هذا القول إلى القاضي أبي بكر الباقلاني وابن بطال
(9)
ونصره أيضًا الشوكاني وألَّف فيه رسالة صغيرة سماها (إتحاف المهرة بالكلام على حديث لا عدوى ولا طيرة) قال فيها: "ومن المناسب للعمل الأصولي أن تجعل الأحاديث الواردة بثبوت العدوى في بعض الأمور، والأمر بالتجنب أو الفرار مُخصصة لعموم حديث "لا عدوى" وما ورد في معناه كما هو شأن العام والخاص"
(10)
.
المسلك الخامس: "حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين فحيث جاء "لا عدوى" كان المخاطب بذلك من قوي يقينه وصح توكله بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة
(11)
وسائر ما ورد من جنسه. وحيث جاء "فر من المجذوم" كان المخاطب بذلك من ضعف يقينه ولم يتمكن من
(8)
مشكلات الأحاديث النبوية، لعبد الله القصيمي، ص (80). وانظر مفتاح دار السعادة (3/ 375).
(9)
انظر الفتح (10/ 160).
(10)
إتحاف المهرة (3) مخطوط، وانظر نيل الأوطار (7/ 221).
(11)
سيأتي تخريجه ص (103).
تمام التوكل فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد العدوى فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوى عنه بأن لا يباشر ما يكون سببًا لإثباتِها"
(12)
.
المسلك السادس: ما ذهب إليه ابن حجر وانتصر له وهو: "أن يقال: إن نفيه صلى الله عليه وسلم للعدوى باقٍ على عمومه وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "لا يعدي شيء شيئًا"
(13)
وقوله صلى الله عليه وسلم لمن عارضه بأن البعير الأجرب يكون في الإبل الصحيحة فيخالطها فتجرب حيث رد عليه بقوله: "فمن أعدى الأول" يعني أن الله سبحانه وتعالى ابتدأ ذلك في الثاني كما ابتدأ الأول، وأما الفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع لئلا يتفق للشخص الذى يخالطه شىء من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداء لا بالعدوى المنفية، فيظن أن ذلك بسبب مخالطته فيعتقد صحة العدوى فيقع في الحرج فأمر بتجنبه حسمًا للمادة"
(14)
.
ويبدو أن ابن حجر رحمه الله تعالى بنى رأيه هذا على الحس، فإنه لما أورد كلام السبكى -وهو قوله في المطعون: "إن شهد طبيبان عارفان مسلمان عدلان أن ذلك سبب في أذى المخالط فالامتناع من مخالطته جائز أو أبلغ من ذلك- قال -يعني ابن حجر-: لا تقبل شهادة من يشهد بذلك لأن الحس يكذبه فهذه الطواعين قد تكرر وجودها في الديار المصرية والشامية وقلَّ أن يخلو بيت منها. ويوجد من أصيب به من يقوم عليه من أهله وخاصته ومُخالطتهم له
(12)
الفتح (10/ 160).
(13)
أخرجه الترمذي (تحفة 6/ 354) ح (2230) وأحمد (6/ 110) ح (4198) وابن أبي شيبة في مسنده (1/ 228) ح (339) كلهم عن عبد الله بن مسعود وضعف إسناده أحمد شاكر وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 142) ح (1152) وأخرجه أحمد (16/ 147) ح (8325) والبغوي في شرح السنة (12/ 169) ح (3249) عن أبي هريرة وصحح إسناده أحمد شاكر والألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 143) ح (1152).
(14)
نزهة النظر بشرح نخبة الفكر، ص (34). وانظر الفتح (10/ 161). بذل الماعون في فضل الطاعون (297).
أشد من مخالطة الأجانب قطعًا، والكثير منهم بل الأكثر سالم من ذلك، فمن شهد في أذى المخالط فهو مكابر"
(15)
.
وممن ذهب إلى هذا القول أيضًا: الطبري
(16)
والطحاوي
(17)
وابن خزيمة
(18)
والمباركفوري
(19)
عليهم رحمة الله.
المسلك السابع: أن يقال إن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" أراد منه نفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها دون تقدير الله تعالى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه" أراد منه الحث على التوكل والصبر تسليمًا لأمر الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه: الأمر بالحذر والحمية والنهي عن التعرض لأسباب التلف وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل والتسليم والتفويض. فالأول: تأديب وتعليم. والثاني: تفويض وتسليم"
(20)
.
وقال ابن دقيق العيد: "ومن هذه المادة قوله: "لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا"
(21)
فأمر بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء وخوف اغترار النفس إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع. ثم أمرهم بالصبر عند الوقوع تسليمًا لأمر الله تعالى"
(22)
.
(15)
بذل الماعون (341، 342).
(16)
في تَهذيب الآثار (1/ 30).
(17)
في شرح معاني الآثار (4/ 310).
(18)
كما نقل ذلك عنه ابن حجر في الفتح (10/ 161).
(19)
في تحفة الأحوذي (5/ 242).
(20)
زاد المعاد (4/ 44).
(21)
متفق عليه: البخاري (3/ 1102) ح (2863)، ومسلم (12/ 289) ح (1741) عن أبي هريرة.
(22)
نقل ذلك عنه ابن ححر في الفتح (10/ 190).
وأما قوله عليه الصلاة والسلام "وفر من المجذوم فرارك من الأسد" وقوله "لا يورد ممرض على مصح" وما في معناهما فأراد منه الإرشاد إلى اجتناب ما يحصل الضرر عنده غالبًا بتقدير الله تعالى وبيان أن العدوى سبب من الأسباب التي خلقها الله تعالى وقدر حصول المرض لمن تعرض لها.
وهذا المسلك هو ما ذهب إليه البيهقي رحمه الله تعالى في الجمع بين الأحاديث وكذا النووي وابن رجب وابن القيم عليهم رحمة الله.
قال البيهقى: "ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدوى" وإنما أراد على الوجه الذي كانوا يعتقدون في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله عز وجل. وقد يجعل الله تعالى بمشيئته مخالطة الصحيح من به شىء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك به. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يورد ممرض على مصح" وقال في الطاعون: "من سمع به بأرض فلا يقدمن عليه" وغير ذلك مما في معناه. وكل ذلك بتقدير الله عز وجل"
(23)
.
وقال النووي: "وطريق الجمع أن حديث "لا عدوى" المراد به نفى ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى. وأما حديث "لا يورد ممرض على مصح" فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره. فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الإحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره"
(24)
.
وقال ابن رجب: "وأظهر ما قيل في معنى "لا عدوى": أنه نفى لما
(23)
معرفة السنن والآثار (5/ 354).
(24)
مسلم بشرح النووي (14/ 464).
كان يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك. ويدل على هذا قوله: "فمن أعدى الأول" يشير إلى أن الأول إنما جرب بقضاء الله وقدره فكذلك الثاني وما بعده"
(25)
واستدل رحمه الله تعالى أيضًا. مما أخرجه الإمام أحمد من طريق ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يعدي شيء شيئًا" فقام أعرابي فقال: يا رسول الله: النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما أجرب الأول؟ لا عدوى ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفس فكتب حياتَها ومصيباتِها ورزقها"
(26)
فقال تعليقًا على هذا الحديث: "فأخبر أن ذلك كله بقضاء الله وقدره كما دل عليه قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}
(27)
"
(28)
.
وقال ابن القيم: "وعندي في الحديثين مسلك آخر يتضمن إثبات الأسباب والحكم ونفى ما كانوا عليه من الشرك واعتقاد الباطل ولو قالوا: إنَّها أسباب أو أجزاءُ أسباب إذا شاء الله صرف مقتضياتِها بِمشيئته وإرادته وحكمته وإنَّها مسخرة بأمره لَما خلقت له وإنَّها في ذلك بِمنْزلة سائر الأسباب التي ربط بها مسبباتِها وجعل لها أسبابًا أخر تعارضها وتمانعها وتمنع اقتضاءها لما جعلت أَسبابًا له وإنَّها لا تقضي مسبباتِها إلا بإذنه ومشيئته وإرادته ليس لها في ذاتِها ضر ولا نفع ولا تأثيرٌ البتة إن هى إلا خلق مُسخَّر مُصرَّف مربوب لا تتحرك
(25)
لطائف المعارف ص (75) بتصرف يسر.
(26)
إسناده صحيح وقد سبق تخريجه ص (87)، وطرفه الأول "لا يعدي شيء شيئًا".
(27)
سورة الحديد. آية (22).
(28)
لطائف المعارف ص (76).
إلا بإذن خالقها ومشيئته .. فسببيتها من جنس سببية وطء الوالد في حصول الولد .. فلو أثبتوا العدوى على هذا الوجه لما انكر عليهم .. "
(29)
.
ثم قال رحمه الله بعد تقريره لهذا المسلك: "ويشبه هذا نفيه سبحانه وتعالى الشفاعة في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}
(30)
.
وفي قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}
(31)
.
وإثباتُها في قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}
(32)
.
وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}
(33)
.
فإنه سبحانه نفى الشفاعة الشركية التي كانوا يعتقدونَها وأمثالهم من المشركين. وهى شفاعة الوسائط لهم عند الله في جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم بذواتِها وأنفسها بدون توقف ذلك على إذن الله ومرضاته لمن شاء أن يشفع فيه الشافع ..
وأثبت سبحانه الشفاعة التي لا تكون إلا بإذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع"
(34)
.
وقال أحمد شاكر مؤيدًا ترجيحه هذا المسلك: "لأنه قد ثبت من العلوم الطبية الحديثة أن الأمراض المعدية تنتقل بواسطة المكروبات ويحملها الهواء أو البصاق أو غير ذلك على اختلاف أنواعها. وأن تأثيرها في الصحيح إنما يكون
(29)
مفتاح دار السعادة (3/ 376).
(30)
سورة البقرة، آية:(48).
(31)
سورة البقرة، آية:(354).
(32)
سورة الأنبياء، آية:(28).
(33)
سورة البقرة، آية (255).
(34)
مفتاح دار السعادة (3/ 377).