الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث الترجيح
الذي يظهر -والله تعالى أعلم- هو القول بأن صلة الرحم سبب في زيادة العمر، والله تعالى قدَّر السبب والمسبب فمن علم الله أنه سيصل رحمه زاد في أجله ومن علم منه خلاف ذلك نقص في أجله.
ومثل هذا ما علمه الله تعالى من أن فلانًا من الناس يعيش بهذه الصحة وهذه العافية، ويتنفس بِهذا الهواء ويسلم من الآفات القاتلة مدة معلومة، فإن هذه أسبابٌ علمها الله وقدرها لابد منها حتى يصل إلى هذه المدة المعينة فالأسباب والمسببات كلها قد سبق علم الله عز وجل بِها
(1)
.
وعلم الله تعالى لا يُبدل ولا يتغيَّر -كما صرح بذلك حتى أصحاب المسلك الأول-
قال ابن حزم: "علم الله عز وجل لا يتغير .. ولكن معلوماته تتغيَّر، ولم نقل إن علمه يتغير ومعاذ الله من هذا، ولم يزل علمه تعالى واحدًا يعلم كل شىء على تصرفه في جميع حالاته، فلم يزل يعلم أن زيدًا سيكون صغيرًا ثم شابًّا ثم كهلًا ثم شيخًا ثم ميتًا ثم مبعوثًا ثم في الجنة أو في النار، ولم يزل يعلم أنه سيؤمن ثم يكفر أو أنه يكفر ثم يؤمن .. "
(2)
.
وقال الشوكاني: "إن الله تعالى كما علم أن العبد يكون له في العمر كذا، ومن الرزق كذا، وهو من أهل السعادة والشقاوة، قد علم أنه إذا وصل رحمه
(1)
انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (2/ 114).
(2)
المرجع السابق (2/ 359).
زاد له في الأجل كذا، وبسط له من الرزق كذا وصار في أهل السعادة بعد أن كان في أهل الشقاوة، أو صار في أهل الشقاوة بعد أن كان في أهل السعادة، وهكذا قد علم ما ينقصه للعبد، كما علم أنه إذا دعاه واستغاث به والتجأ إليه صرف عنه الشر ودفع عنه المكروه، وليس في ذلك خلف ولا مخالفة لسبق العلم، بل فيه تقييد المسببات بأسبابها كما قدر الشبع والرَّوي بالأكل والشرب وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر، فهل يقول عاقل بأن ربط هذه المسببات بأسبابِها يقتضي خلاف العلم السابق أو يُنافيه بوجه من الوجوه؟ "
(3)
.
فزيادة العمر بصلة الرحم أمر مفروغ منه قد سبق به علم الله تعالى، فإذا كان ذلك كذلك فليس في هذا القول مخالفة للنصوص التى فيها أن الأجل قد فُرغ من تقديره، لأننا نقول: إن الأجل قد فُرغ من تقديره بهذه الزيادة وذلك النقص، لأن الزيادة والنقص مقدران أيضًا، كما أن الصحة والعافية -وكونهما من أسباب بلوغه هذه الغاية من العمر- مقدران أيضًا.
وعلى هذا فلا حاجة لنفى الزيادة والنقصان، والله تعالى أعلم.
وهذا القول لعله لا يُخالف فيه حتى أصحاب المسلك الثاني لأنَّهم إنما نفوا الزيادة والنقصان لتوهمهم أن القول بذلك يعارض النصوص القاضية بكتابة الأجل والفراغ منه، ولكنه بِهذا القول وهذا التقرير يزول هذا الوهم.
ولذلك قال الإمام مرعي بن يوسف بعد ذكره لهذا القول: "ولعله مُراد كلٍّ من الفريقين والخلاف بينهما لفظى إذ لا يسع من له أدنى تأمل أن يخالف في أن علم الله تعالى لا يتغير ولا يتبدل"
(4)
.
(3)
تنبيه الأفاضل (31).
(4)
إرشاد ذوى العرفان (69، 70).
وممن صرَّح بأن الخلاف لفظي الحافظ ابن حجر رحمه الله حيث قال: "والحق أن النِّزاع لفظي وأن الذي سبق في علم الله لا يتغيَّر ولا يتبدل"
(5)
.
- وأما التأويلات التي أوَّل بها أصحاب المسلك الثاني الزيادة في العمر -كقولهم: إن المراد بالزيادة البركة في العمر، أو قولهم: إن المراد السعة في الرزق، أو نفى الآفات عن صاحب البر، والزيادة فى فهمه وعقله، وغير ذلك- فتأويلات ضعيفة مرجوحة لأن هذه الأشياء مقدرة أيضًا قد فُرغ من تقديرها في الأزل، وعلى هذا فهم لم يتخلصوا مما فروا منه
(6)
.
وأما ما أجابوا به عن قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وذلك بتخصيصها وعدم حملها على العموم، فقد ردَّه أصحاب المسلك الأول لعدم وجود الدليل على التخصيص.
قال الشوكاني بعد ذكره للتخصيص الذى خصصوا به الآية -والذي تقدم ذكره
(7)
- قال: "ولا يخفى أن هذا تخصيص لعموم الآية لغير مخصص، وأيضًا يقال لهم: إن القلم قد جرى بما هو كائن إلى يوم القيامة كما فى الأحاديث الصحيحة، ومن جملة ذلك في الشرائع والفرائض، فهى مثل العمر إذا جاز فيها المحو والإثبات جاز في العمر المحو والإثبات"
(8)
.
وقال أيضًا بعد ذكره لجملة من التخصيصات التي خصصوا بِها الآية: "وكل هذه الأقوال دعاوى مجردة، ولا شك أن آية المحو والإثبات عامة لكل ما يشاؤه الله سبحانه، فلا يجوز تخصيصها إلا لمخصص، وإلا كان من التقوّل على
(5)
فتح الباري (11/ 488).
(6)
انظر مجموع الفتاوى (14/ 490) إرشاد ذوى العرفان (65).
(7)
انظر ص (477 - 478).
(8)
تنبيه الأفاضل (13) وانظر إرشاد ذوى العرفان (62).