الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بطلت هذه القسمة وسقط هذا الحساب من أصله"
(5)
.
والوجه الثاني: أنه قد اختلف في قدر المدة التى بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى موته.
والوجه الثالث: أنه يبقى حديث السبعين جزءًا بغير معنى لأن أصحاب هذا القول لم يُجيبوا عنه
(6)
.
- وأما القول بالنسخ فيُشترط له معرفة التاريخ حتى يُنسخ المتقدم بالمتأخر، وهذا غير معلوم هذا على فرض تعذر الجمع لأن الجمع إذا أمكن على وجه صحيح فالمصير إليه أولى، كما أن النسخ لا يقع في الأخبار، وهذا خبر.
- وأما ترجيح رواية الست والأربعين على غيرها من الروايات كما فعل القاضي عياض فغير صحيح لأن الروايات المتقدمة كلها صحيحة فلا سبيل إلى طرح شيء منها
(7)
، مع أن الترجيح لا يُصار إليه إلا إذا تعذر الجمع والنسخ، والجمع هنا غير متعذر كما تقدم.
مسألة:
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة
(8)
كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له"
(9)
.
وكان مبتدأ الوحي -لنبينا صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصادقة، ثم انتقل إلى وحي اليقظة.
(5)
أعلام السنن (4/ 23115).
(6)
انظر: المعلم (3/ 118) فتح الباري (12/ 364).
(7)
انظر: المفهم (6/ 14).
(8)
انظر: ص (576، 577) من هذا البحث.
(9)
أخرجه مسلم من حديث ابن عباس (4/ 442) ح (479).
واتفقت الأمة على أن رؤيا الأنبياء وحي، ولهذا أقدم الخليل عليه السلام على ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام بالرؤيا
(10)
.
إذا تبين هذا -وهو كون الرؤيا من النبوة- فهل يجب العمل بِها والأخذ بمدلولها دون عرض ذلك على الشرع؟
الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الرؤيا إذا كانت من غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنه يجب عرضها على الشرع فإن وافقته وإلا لم يعمل بِها، وأنَّها لا يثبت بها شيء من الأحكام الشرعية، وأن العصمة منتفية عنها، وغاية ما فيها أنَّها: تبشير وتحذير، ويصلح الاستئناس بِها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز أن يثبت بِها شىء بالاتفاق فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه، ورؤيا من الشيطان"
(11)
.
فإذا كان جنس الرؤيا تحته أنواع ثلاثة، فلا بد من تمييز كل نوع منها عن نوع"
(12)
.
وقال ابن القيم: "والرؤيا كالكشف منها رحماني، ومنها نفساني، ومنها شيطاني"
(13)
، ثم ذكر حديث: الرؤيا ثلاثة.
وقال الشاطبي: "الرؤيا من غير الأنبياء لا يُحكم بِها شرعًا على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوَّغتها عُمل بمقتضاها
(10)
انظر مدارج السالكين (1/ 62).
(11)
متفق عليه من حديث أبي هريرة: البخاري (6/ 2574) ح (6614)، ومسلم (15/ 25) ح (2263) وقد ذكره شيخ الإسلام بالمعنى.
(12)
مجموع الفتاوى (27/ 458) وانظر (11/ 429).
(13)
مدارج السالكين (1/ 62).
وإلا وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتُها البشارة والنذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا"
(14)
.
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي: "الرؤيا قصاراها التبشير والتحذير، وفي الصحيح أن الرؤيا قد تكون حقًّا وهى المعدودة من النبوة، وقد تكون من الشيطان، وقد تكون من حديث النفس، والتمييز مشكل، ومع ذلك فالغالب أن تكون على خلاف الظاهر حتى في رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما قص من ذلك في القرآن، وثبت في الأحاديث الصحيحة، ولهذه الأمور اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح للحجة، وإنما هى تبشير وتنبيه، وتصلح للاستئناس بِها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة"
(15)
.
وخالف في هذا الصوفية
(16)
فذهبوا إلى تعظيم شأن الرؤيا المنامية، وجعلها أصلًا في الاستدلال ومصدرًا من مصادر التلقي، بل قدموها على الكتاب والسنة خاصة عند التعارض، وفي كثير من الأحيان يعتمدون عليها في معرفة الأحكام الشرعية دون النظر إلى موافقة الشرع أو مخالفته بل إنَّهم ربما اعتمدوا عليها في معرفة صحيح الأحاديث النبوية من ضعيفها.
(14)
الاعتصام (1/ 332).
(15)
التنكيل (2/ 242).
(16)
لفظ الصوفية لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة المفضلة وإنما اشتُهر التكلم به بعد ذلك، وقد اختُلف في أصل كلمة الصوفية واشتقاقها على أقوال كثيرة، رجح شيخ الإسلام ابن تيمية أنه نسبة إلى لبس الصوف. وقد كانت بداية التصوف عبارة عن الزهد في الدنيا والتنسك والعبادة وتفريغ القلب من غير الله، ثم انحرف مفهوم التصوف شيئًا فشيئًا حتى انتهى إلى القول بعقائد باطلة كالحلول والاتحاد وترك الواجبات وفعل المحرمات وغير ذلك. انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي (223) وما بعدها، مجموع الفتاوى (11/ 5) وما بعدها.
وأكثر ما يصرحون بالتلقي عنه منامًا الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم
(17)
.
قال الشاطبي وهو يذكر مأخذ أهل البدع بالاستدلال -: "وأضعف هؤلاء احتجاجًا قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا فلانًا الرجل الصالح، فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا.
ويتفق مثل هذا كثيرًا للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي كذا، وأمرني بكذا، فيعمل بِها معرضًا عن الحدود الموضوعة في الشريعة"
(18)
.
ومن أمثلة ادّعاءاتهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم: دعوى ابن عربي أنه تلقى كتاب فصوص الحكم
(19)
من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أمره أن يخرجه إلى الناس لينتفعوا به
(20)
فقال في أول كتاب الفصوص: "أما بعد فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُبَشِّرة أُرِيتُها في العشر الأواخر من المحرم سنة (627 هـ) بمحروسة دمشق وبيده كتاب، فقال لي: هذا كتاب "فصوص الحكم" خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ورسوله وأولي الأمر منا"
(21)
.
(17)
انظر المصادر العامة للتلقي عند الصوفية، لصادق سليم صادق (183، 192، 309).
(18)
الاعتصام (1/ 331).
(19)
كتاب فصوص الحكم لابن عربي الصوفي مليء بالترهات والضلالات والخرافات كعقيدة الوحدة والاتحاد المخالفة لصريح الكتاب والسنة، فهو يزعم في هذا الكتاب صحة إيمان فرعون، وصحة عبادة قوم نوح عليه السلام، ويقول: إن الذين عبدوا العجل ما عبدوا غير الله، إلى غير ذلك مما يخالف أصل الدين الإسلامي، وقد نقد هذا الكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية وبيَّن ما فيه من الكفر والضلال. انظر مجموع الفتاوى (2/ 121 - 133) وقال عنه الذهبي:" إن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كفر" السير (23/ 48).
(20)
وقريب من هذه الدعوى: دعوى عبد الكريم الجيلي (ت 805 هـ) أن الله تعالى أمره بتأليف كتابه (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل) انظر ص (1/ 70) من كتابه هذا.
(21)
فصوص الحكم ص (47).
بقي أن نعلم بعد هذا: ما معنى كون الرؤيا جزء من أجزاء النبوة؟
الجواب عن هذا هو: أن معنى كون الرؤيا الصادقة أو الصالحة جزء من أجزاء النبوة أنَّها شابَهتها أو شاركتها في الصلاح والإخبار عن أمرٍ غيبي مستقبل
(22)
.
ولا يُفهم من هذا أن رؤيا الكافر إذا كانت صادقة -كرؤيا الملك التي فسرها له يوسف عليه السلام، وكذلك رؤيا صاحبيه في السجن- أنَّها تكون من أجزاء النبوة، فإن أكثر الروايات جاءت مقيدة بالمسلم أو المؤمن.
ثم إنه ليس كل من صدق في حديث عن غيب كان ذلك من أجزاء النبوة أو كان ذلك دليلًا على صلاحه واستقامته، وإلا لكان الكهان كذلك؟ !
قال أبو العباس القرطبي: "الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يُناسب حاله حال النبي صلى الله عليه وسلم فأُكرم بنوع مما أُكرم به الأنبياء، وهو الاطّلاع على شيء من علم الغيب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم، يراها الرجل الصالح أو تُرى له"
(23)
.
فإن الكافر والكاذب والمخلِّط -وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات- لا تكون من الوحي ولا من النبوة، إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة، وقد قدمنا أن الكاهن يُخبر بكلمة الحق وكذلك المنجم قد يحدِس فيصدق، لكن على الندور والقلَّة"
(24)
.
(22)
انظر المعلم (3/ 118) عارضة الأحوذي (9/ 191) كشف المشكل (2/ 76). معالم السنن (4/ 129) فتح الباري (12/ 363).
(23)
تقدم تخريجه ص (584).
(24)
المفهم (6/ 13) وانظر عارضة الأحوذي (9/ 92) طرح التثريب (8/ 207، 208).