الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث الترجيح
الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول بإطلاق هذه الأحاديث كما جاءت -سواءً أحاديث الوعد أو أحاديث الوعيد المتعلقة بأحكام الآخرة- وحملها على ظاهرها واعتقاد أن هذه الأعمال سبب وموجب لتحقق الوعد أو الوعيد المرتب عليها، لكن لا يُحكم على معيّن بتحقق الوعد أو الوعيد فيه حتي تتوفر فيه الشروط، وتنتفي عنه الموانع، وقد نصر هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وقرره في مواضع كثيرة من كتبه.
ويدل على صحة هذا القول في أحاديث الوعد:
1 -
أنه -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رتب دخول الجنة على الأعمال الصالحة -مع الإيمان وعدم الشرك- في كثير من الأحاديث، ولم يقتصر فيها على مجرد الإتيان بالشهادتين، ومن هذه الأحاديث:
أ - حديث أبي أيوب رضى الله عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعملٍ يدخلنى الجنة، فقال النبي -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:"تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم"
(1)
.
ب - حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًّا أتى النبى -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال:"تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان"
(2)
.
(1)
متفق عليه: البخارى: كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة. (2/ 505) ح (1332). ومسلم: كتاب الإيمان، باب: الإيمان الذي يدخل به الجنة (1/ 286) ح (13).
(2)
متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة. (2/ 506) ح (1333). ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الإيمان الذي يدخل به الجنة (1/ 288) ح (14).
2 -
أن الروايات المطلقة -والتي فيها أن من جاء بالشهادة أو الشهادتين دخل الجنة أو حرمه الله على النار- جاءت مقيدة في روايات أخرى
(3)
، فوجب حمل المطلق على المقيد.
فالروايات المطلقة ليس فيها إلا أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، ومقتض لذلك، ولكن لا بد لحصول المسبب والمُقتضى من توفر الشروط وانتفاء الموانع، أما إذا تخلف شرط أو وجد مانع فلا ريب أنه قد يتخلف المسبب أو المقتضى.
ولذلك لما قيل للحسن: إن ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، قال:"من قال لا إله إلا الله فأدَّ حقها وفرضها دخل الجنة"
(4)
.
وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: "بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك"
(5)
.
وقد ذكر أهل العلم شروطًا سبعة لا بد من تحققها فيمن قال لا إله إلا الله حتي تنفعه وقد جُمعت في هذا البيت:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع
…
محبة وانقياد والقبول لها
(6)
قال ابن القيم معلقًا على حديث: "إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"
(7)
، قال رحمه الله: "والشارع صلوات
(3)
وقد تقدم ذكر شىء منها ص (340).
(4)
انظر التوحيد لابن رجب (40).
(5)
أخرجه البخاري تعليقًا (1/ 417).
(6)
انظر تفصيل هذه الشروط وأدلتها في معارج القبول للحكمي (1/ 273 - 279).
(7)
تقدم تخريجه ص (341).
الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلًا بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونَها بألسنتهم وهم مع ذلك في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان.
وقول القلب يتضمن من معرفتها والتصديق بِها ومعرفة حقيقة ما تضمنته -من النفى والإثبات- ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله المختصة به التي يستحيل ثبوتُها لغيره، وقيام هذا المعني بالقلب علمًا ومعرفة ويقينًا وحالًا: ما يوجب تحريم قائلها على النار، وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب فإنما هو القول التام"
(8)
.
وقال سليمان بن عبد الله: "أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها فإن ذلك غير نافع بالاجماع"
(9)
.
3 -
أن أبا بكر رضي الله عنه لما أراد قتال مانعى الزكاة احتج عليه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بقوله -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"
(10)
حيث فهم منه عمر رضى الله عنه وجماعة من الصحابة: أن من أتى بالشهادتين امتنع من عقوبة الدنيا بمجرد ذلك فتوقفوا في قتال مانعي الزكاة.
وفهم الصديق أنه لا يمتنع قتاله إلا بأداء حقوقها لقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه" قال: والزكاة حق المال.
ولما قرر أبو بكر رضى الله عنه هذا للصحابة رجعوا إلى قوله ورأوه صوابًا.
(8)
مدارج السالكين (1/ 359) بتصرف يسير، وانظر كلامًا جميلًا له في نفس الموضوع (1/ 354، 358).
(9)
تيسير العزيز الحميد (72).
(10)
متفق عليه: البخارى، كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة (2/ 507) ح (1335). ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله (1/ 314) ح (20).
مع أن هذا الفهم الذي فهمه الصديق رضى الله عنه جاء ما يؤيده مرفوعًا إلى النبي -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابُهم على الله"
(11)
"
(12)
.
فإذا عُلم أن عقوبة الدنيا لا ترتفع عمن أدَّى الشهادتين مطلقًا بل قد يعاقب بإخلاله بحق من حقوق الإسلام فكذلك عقوبة الآخرة
(13)
.
وبِهذا القول يُعلم الجمع -أيضًا- بين الأحاديث التى فيها تحريم النار على من قال لا إله إلا الله والأحاديث التي فيها خروجه من النار بالشفاعة، وذلك بأن يكون المراد بتحريم النار على من قال لا إله إلا الله: من قالها مستوفيًا لشروطها منتفية عنه موانعها.
-وأما ما ذهب إليه أصحاب المسلك الثاني من التأويلات لأحاديث الوعد فإنَّها -وإن كانت محتملة- إلا أنَّها بعيدة عن ظاهر هذه الأحاديث ولذلك عدها ابن القيم رحمه الله من التأويلات المستكرهة
(14)
.
- وأما ما ذهب إليه القائلون بأن أحاديث الوعد كانت قبل نزول الفرائض ثم نزلت نصوص الفرائض والحدود فنسختها فإنه بعيد جدًّا -سواء كان مرادهم
(11)
متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} (1/ 17) ح (25). ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتي يقولوا: لا إله إلا الله .. (1/ 325) ح (22).
(12)
قال النووى رحمه الله: "وفي استدلال أبى بكر واعتراض عمر رضى الله عنهما دليل على أنَّهما لم يحفظا عن رسول الله -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما رواه ابن عمر فإن عمر رضى الله عنه لو سمع ذلك لما خالف ولما كان احتج بالحديث فإنه بِهذه الزيادة حجة عليه، ولو سمع أبو بكر رضى الله عنه هذه الزيادة لاحتج بِها ولما احتج بالقياس والعموم والله أعلم" مسلم بشرح النووي (1/ 320).
(13)
انظر التوحيد لابن رجب (43 - 45).
(14)
انظر مدارج السالكين (1/ 359).
حقيقة النسخ أم كان مرادهم بالنسخ البيان والإيضاح -لأن كثيرًا من نصوص الوعد كان بالمدينة بعد نزول الفرائض والحدود، وفي بعضها أنه كان في غزوة تبوك وهى في آخر حياة النبي -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(15)
كما أن أبا هريرة رضي الله عنه من رواة أحاديث الوعد وهو متأخر الإسلام، أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق، وكانت أحكام الشريعة مستقرة وأكثر هذه الواجبات كانت فروضها مستقرة، وكانت الصلاة والصيام والزكاة وغيرها من الأحكام قد تقرر فرضها
(16)
.
تنبيه:
قد يشكل على هذا القول الذي تقدم ترجيحه ما جاء في حديث الشفاعة عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " .. فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حممًا فيلقيهم في نَهر في أفواه الجنة يقال له نَهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل .. " قال: "فيخرجون كاللؤلؤ في رقابِهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه"
(17)
.
ووجه الإشكال أن هذا الحديث فيه التصريح بخروج قوم من النار وإدخالهم الجنة مع أنَّهم لم يعملوا خيرًا قط.
والجواب عن هذا الإشكال في هذا الحديث وما في معناه: هو أنه محمول على أحد أمرين:
أحدهما: ما ذكره ابن خزيمة رحمه الله تعالى من أنّ "هذه اللفظة" لم
(15)
انظر التوحيد لابن رجب (45، 46).
(16)
انظر مسلم بشرح النووي (1/ 334) فتح البارى (1/ 226).
(17)
متفق عليه: البخاري، كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ .. } (6/ 2706) ح (7001). ومسلم واللفظ له، كتاب الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية. (3/ 30) ح (183).
يعملوا خيرًا قط"
(18)
من الجنس الذي يقول العرب بنفى الاسم عن الشىء لنقصه عن الكمال والتمام فمعني هذه اللفظة على هذا الأصل: لم يعملوا خيرًا قط على التمام والكمال لا على ما أوجب عليه وأمر به، وقد بينت هذا المعني في مواضع من كتبى"
(19)
.
ويشهد لهذا التوجيه حديث المسيء صلاته حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع فصل فإنك لم تصل"، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يُرد في هذا الحديث نفى مطلق الصلاة لأنَّه قد رآه يصلي وإنما أراد نفى حقيقة الصلاة وكمالها الواجب
(20)
.
وثانيهما: أن يقال أنه محمول على حالات خاصة يكون فيها تارك جنس العمل غير مخلد في النار، وقد لا يدخلها أصلًا. ومن هذه الحالات التي يمكن تطبيق هذا الحديث عليها ما يلى:
1 -
سكان الأطراف البعيدة والجزر النائية ممن لم يصلهم من الإسلام إلّا اسمه وينتشر فيهم الشرك والجهل في الدين فهم غافلون عنه أو معرضون عمن تعلمه ولا يعرفون من أحكامه شيئًا، فهؤلاء لا شك أن فيهم المعذور وفيهم المؤاخذ.
والمؤاخذون درجات، فقد يخرج بعضهم عن حكم الإسلام بمرة، وقد يكون لا يخلد في النار .. وهكذا مما لا يعلم حقيقته إلا علام الغيوب.
2 -
بعض شرار الناس آخر الزمان حين يفشو الجهل ويندرس الدين، وعلى هذا جاء حديث حذيفة رضى الله عنه مرفوعًا: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك، ويُسْرى على
(18)
وردت هذه الجملة في بعض ألفاظ الحديث.
(19)
التوحيد (2/ 732).
(20)
انظر كتاب الإيمان لأبي عبيد (41 - 42)، ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامى للدكتور سفر الحوالي (2/ 752) وانظر أيضًا ص (359) من هذا البحث.
كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها" قال صلة بن زفر لحذيفة: فما تغنى عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صيام ولا صدقة ولا نسك؟ فأعرض عنه حذيفة، فرددها عليه ثلاثًا كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة تنجيهم من النار
(21)
.
فهؤلاء الذين يكونون في هذا الزمن -نسأل الله العافية- نقول فيهم كما قال حذيفة رضى الله عنه: إن لا إله إلا الله تنجيهم من النار، إذ لا يعلمون غيرها في ذلك الزمان الذي هو أسوأ زمان
(22)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوات حتي لا يبقى من يُبلغ ما بعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتي يعرف ما جاء به الرسول -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"
(23)
، ثم ذكر حديث حذيفة السابق.
وأما الدلالة على صحة هذا القول في أحاديث الوعيد المتعلقة بأحكام الآخرة فظاهرة:
(21)
أخرحه ابن ماجه (2/ 1344) ح (4049)، والحاكم واللفظ له (4/ 520) ح (8460) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال البوصيرى في مصباح الزجاجة (4/ 194): هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات.
(22)
انظر ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي للدكتور سفر الحوالي (2/ 757 - 758).
(23)
مجموع الفتاوى (11/ 407). بتصرف يسير.
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم فرَّق بين إطلاق هذه الأحاديث وبين الحكم بِها على المعيَّن، وذلك كما في حديث أنس رضى الله عنه قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربَها وحاملها .. "
(24)
.
ففى هذا الحديث أطلق رسول الله -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللعن على شارب الخمر على وجه العموم.
وثبت في صحيح البخاري من حديث عمر بن الخطاب: أن رجلًا على عهد النبى -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكان النبى -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به، فقال النبى -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:"لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله"
(25)
ففى هذا الحديث نَهى رسول الله -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن لعن هذا الرجل الذي يشرب الخمر مع إصراره على شربه وفي الحديث الأول لعن شارب الخمر، وذلك لأن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعيَّن الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له
(26)
.
وهذا التفريق بين إطلاق نصوص الوعيد وبين الحكم بِها على معين يجب تطبيقه في جميع نصوص الوعيد المتعلقة بأحكام الآخرة، فمثلًا قوله -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"
(27)
يجب العمل به في تحريم اقتتال المؤمنين بغير حق، واعتقاد أن فاعل ذلك متوعد بِهذا الوعيد، ومع
(24)
أخرجه الترمذى (تحفة 4/ 516) ح (1313) وقال: هذا حديث غريب من حديث أنس، وقد رُوي نحو هذا عن ابن عبَّاس وابن مسعود وابن عمر عن النبي -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأخرجه ابن ماجه (2/ 1122) ح (3381) وقال الألباني عن إسناد الترمذي: حسن صحيح، انظر صحيح سنن الترمذي (2/ 27) ح (1041).
(25)
أخرجه البخارى (6/ 2489) ح (6398).
(26)
انظر مجموع الفتاوى (10/ 329)، (4/ 474، 484).
(27)
متفق عليه من حديث أبى بكرة: البخارى (1/ 20) ح (31). ومسلم (18/ 226) ح (2888).
ذلك فإننا لا نحكم على أهل الجمل وصفين بالنار، لأن لهم عذرًا وتأويلًا في القتال، وحسنات منعت المقتضى أن يعمل عمله
(28)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فثبت أن الأحاديث المتضمنة للوعيد يجب العمل بِها في مقتضاها باعتقاد أن فاعل ذلك الفعل متوعد بذلك الوعيد، لكن لحوق الوعيد به متوقف على شروط وله موانع"
(29)
.
وقال أيضًا: "وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}
(30)
فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعيَّن لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع"
(31)
.
وقد ذكر أهل العلم أحد عشر سببًا تُسقط العقوبة على الذنب، وتمنع من إنفاذ الوعيد وهى كالتالي:
1 -
التوحيد.
2 -
التوبة: وهى مانعة من إنفاذ الوعيد بالاتفاق.
3 -
الاستغفار.
4 -
الحسنات الماحية.
5 -
دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتِهم على جنازته.
6 -
ما يُعمل للميت من أعمال البر كالصدقة ونحوها.
(28)
انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص (69)، وانظر مزيدًا من الأمثلة (65 - 71).
(29)
رفع الملام ص (65).
(30)
سورة النساء، آية (10).
(31)
مجموع الفتاوى (23/ 345) وانظر (35/ 165).
7 -
شفاعة النبى -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة.
8 -
المصائب الدنيوية التى يُكفر الله بِها الخطايا.
9 -
ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة فإن هذا مما يكفر به الخطايا.
10 -
أهوال يوم القيامة وكربِها وشدائدها.
11 -
رحمة الله وعفوه ومغفرته من غير شفاعة
(32)
.
وأما أحاديث الوعيد المتعلقة بأحكام الدنيا، كالتي فيها إطلاق الكفر على من ارتكب بعض الكبائر أو نفى الإيمان عنه أو البراءة منه، فإنه لا يصح حملها على الكفر المخرج من الملَّة، لأن الإجماع منعقد -كما تقدم- على عدم كفر مرتكب الكبيرة ما لم تكن شركًا أو يكون مستحلًّا لها.
- وعلى هذا فإن الصحيح في الأحاديث التى ورد فيها إطلاق الكفر على من ارتكب بعض الكبائر: أن المراد بِها الكفر الأصغر والذي عبر عنه بعض السلف بقولهم كفر دون كفر، وضابط هذا الكفر: أنه كل ما ثبت بنص أنه كفر، لكن دلت الدلائل على أنه ليس كفرًا مخرجًا من الملَّة، مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"
(33)
(34)
فالكفر المراد في الحديث ليس
(32)
انظر تفصيل هذه الموانع وأدلتها في مجموع الفتاوى (7/ 487 - 501). شرح العقيدة الطحاوية (451 - 455) موانع إنفاذ الوعيد رسالة ماجستير للدكتور عيسى السعدي، مخطوط.
(33)
تقدم تخريجه ص (342).
(34)
سورة الحجرات، آية (9).
الكفر المخرج من الملَّة، وإلا لما أثبت الله لمن تقاتلوا وصف الإيمان الذي هو في الآية الإسلام الظاهر
(35)
.
- وأما الأحاديث التى ورد فيها نفى الإيمان عمَّن ارتكب بعض الكبائر فإن المراد بالمنفى فيها كمال الإيمان الواجب وليس المراد نفى مطلق الإيمان، ولا نفى كمال الإيمان المستحب وهذا هو الذي ذهب إليه جمع من أهل العلم، كما تقدم.
- وكذلك أحاديث البراءة من أصحاب الكبائر فإنَّها محمولة على هذا فيكون المعني فيها: ليس من المؤمنين الإيمان الواجب الذي به يستحقون الثواب بلا عقاب.
وهذا القول والذي قبله في نصوص الكفر مبنى على أصل عظيم عند أهل السنة والجماعة وهو أن الشخص الواحد يمكن أن يجتمع فيه كفر وإيمان ونفاق وإيمان، وليس مرادهم بالكفر، أصل الكفر المُخرج من الملَّة، فإنه لا يجتمع مع الإيمان، وإنما مرادهم شعبة من شعب الكفر إذ المعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات من شعب الإيمان، وكذلك ليس مرادهم بالنفاق: النفاق الاعتقادي المخرج من الملَّة، وإنما مرادهم النفاق العملي، قال ابن القيم رحمه الله: "الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وهذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع، كالخوارج
(36)
والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من
(35)
انظر: ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله القرني.
(36)
الخوارج: سموا بذلك لخروجهم على علي بن أبى طالب رضي الله عنه ويسمون أيضًا بـ (المحكمة والحرورية والشراة والمارقة).
أما تسميتهم بالمحكمة فلأنَّهم أنكروا الحكمين وقالوا: لا حكم إلا الله.
وأما تسميتهم بالحرورية فلأنَّهم نزلوا بحروراء في أول أمرهم.
وأما تسميتهم بالشراة فلقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله، أى بعناها بالجنة وأما تسميتهم بالمارقة فأخذًا من قوله صلى الله عليه وسلم:"يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، وهم يرضون هذه الأسماء=
النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة، والفطرة وإجماع الصحابة"
(37)
ثم ساق الأدلة على هذا الأصل.
فإذا قام بالشخص شىء من شعب الكفر فإنه ينتفى عنه الإيمان المطلق فلا يوصف به، وإنما يوصف بالإسلام -لأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا- ولذلك قال بعض السلف في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .. " قال: هذا الإسلام ودوَّر دائرة واسعة، وهذا الإيمان ودور دائرة صغيرة في وسط الكبيرة، فإذا زني أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله
(38)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الإنسان قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب النفاق، وقد يكون مسلمًا وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية، كما قال الصحابة، ابن عبَّاس وغيره: كفر دون كفر، وهذا قول عامة السلف وهو الذي نص عليه أحمد وغيره ممن قال في السارق والشارب ونحوهم ممن قال فيه النبى -صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنه ليس بمؤمن" إنه يُقال لهم: مسلمون لا مؤمنون، واستدلوا بالقرآن والسنة على نفى الإيمان مع إثبات اسم الإسلام، وبأن الرجل قد يكون مسلمًا ومعه كفر لا ينقل عن الملَّة بل كفر دون كفر"
(39)
.
فالإيمان من حيث العموم له مرتبتان:
= كلها إلا (المارقة) فإنَّهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين، والخوارج فرق شتي تزيد على العشرين فرقة، ولكن الذي يجمعها: تكفير علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وأصحاب الجمل والحكمين ومن رضي بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما والخروج على السلطان الجائر.
كما أن الخوارج مجمعون على تكفير مرتكب الكبيرة وأنه خالد مخلد في النار إلا (النجدات) فإنَّهم خالفوهم في ذلك (انظر مقالات الإسلاميين (1/ 167، 206) الفرق بين الفرق (78) أصول الدين (332) الملل والنحل (1/ 114).).
(37)
الصلاة وحكم تاركها، ص (37) وانظر الجهل بمسائل الاعتقاد لعبد الرزاق بن طاهر (148 - 158).
(38)
انظر: السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 342) ح (725)، مجموع الفتاوى (7/ 319).
(39)
مجموع الفتاوى (7/ 350).