الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
قالوا: ومما يدل على أن الإساءة يراد بِها الكفر والشرك قوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
(15)
.
فقد ذهب الطبري إلى أن المراد بالسيئة هنا الشرك والكفر ونَقل هذا التفسير عن أبي هريرة وابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك وجمع من المتقدمين
(16)
.
قال الشوكاني عند هذه الآية: "قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم -حتى قيل إنه مجمع عليه بين أهل التأويل-: إن المراد بالسيئة هنا الشرك، ووجه التخصيص قوله: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} فهذا الجزاء لا يكون إلا بمثل سيئة الشرك"
(17)
.
المسلك الثاني:
ما ذهب إليه الإمام أحمد وبعض أصحابه كأبي بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره، وهو اختيار الحليمي من الشافعية
(18)
، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية
(19)
، وابن أبي العز في شرح الطحاوية
(20)
، ونصره ابن حزم
(21)
وابن رجب، وهو قول طوائف من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم
(22)
.
(15)
سورة النمل آية (90).
(16)
انظر تفسير الطبرى (10/ 21، 22، 23). (5/ 416، 417، 418).
(17)
فتح القدير (4/ 156).
(18)
انظر: المنهاج في شعب الإيمان (1/ 50) فتح الباري لابن رجب (1/ 155، 156)، وفتح البارى لابن حجر (12/ 266، 267).
(19)
كما سيأتي النقل عنه.
(20)
انظر شرح العقيدة الطحاوية (451).
(21)
انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 354).
(22)
انظر فتح الباري لابن رجب (1/ 155).
وهو أن الإسلام إنما يكفر ما كان قبله من الكفر ولواحقه التي اجتبنها المسلم بإسلامه، فأما الذنوب التي فعلها في الجاهلية إذا أصرَّ عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها، لأنه إذا أصر عليها في الإسلام لم يكن تائبًا منها فلا يُكفر عنه بدون التوبة منها، وعلى هذا فإن الإساءة في حديث ابن مسعود يراد بها الإصرار على الذنوب التي كان يعملها في الجاهلية.
قال أصحاب هذا المسلك: وبِهذا القول تجتمع الأدلة وأجابوا:
- عن استدلال أصحاب القول الأول بآية:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ .. } بأن المراد: يغفر لهم ما سلف مما انتهوا عنه.
- وأما استدلالهم بحديث: "أن الإسلام يهدم ما كان قبله" فقال أصحاب هذا القول: إن اللام في قوله (الإسلام) لتعريف العهد، والإسلام المعهود بينهم، كان الإسلام الحسن الذي يتضمن فعل الأوامر وترك النواهي فمن أسلم هذا الإسلام غفرت ذنوبه كلها.
وأما ما ذهبوا إليه من حمل الإساءة في حديث ابن مسعود على الكفر فقال عنه ابن رجب: "هذا بعيد جدًّا ومتى ارتد عن الإسلام أو كان منافقًا فلم يبق معه إسلام حتى يسيء فيه"
(23)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية وقد سُئل عن اليهودي والنصراني إذا أسلم: هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام؟
فأجاب: "إذا أسلم باطنًا وظاهرًا غُفر له الكفر الذي تاب منه بالإسلام بلا نزاع، وأما الذنوب التي لم يتب منها مثل: أن يكون مصرًّا على ذنب أو ظلم
(23)
فتح الباري (1/ 157).
أو فاحشة، ولم يتب منها بالإسلام فقد قال بعض الناس: إنه يغفر له بالإسلام.
والصحيح: أنه إنما يُغفر له ما تاب منه كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل: "أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخذ بالأول والآخر"
و(حسن الإسلام) أن يلتزم فعل ما أمر الله به وترك ما نَهى عنه، وهذا معنى التوبة العامة، فمن أسلم هذا الإسلام غُفِرَت ذنوبه كلها.
وهكذا كان إسلام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعمرو بن العاص رضي الله عنه:"أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله" فإن اللام لتعريف العهد، والإسلام المعهود بينهم كان الإسلام الحسن.
وقوله: "ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" أي إذا أصرَّ على ما كان يعمله من الذنوب فإنه يؤاخذ بالأول والآخر، وهذا موجب النصوص والعدل، فإن من تاب من ذنب غفر له ذلك الذنب، ولم يجب أن يغفر له غيره، والمسلم تائب من الكفر كما قال تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}
(24)
وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}
(25)
أى إذا انتهوا عما نُهوا عنه غفر لهم ما قد سلف فالانتهاء عن الذنب هو التوبة منه، من انتهى عن ذنب غُفر له ما سلف منه وأما من لم ينته عن ذنب فلا يجب أن يغفر له ما سلف
(24)
سورة التوبة، آية (5).
(25)
سورة الأنفال، آية (38).