الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث الترجيح
لا شك أن لكل مسلك من المسالك السابقة وجهته ووجاهته وكلها مسالك مُحتملة، وبعضها متقاربة.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم بالصواب- أن الكى لا يمكن أن يُحكم عليه بحكم واحد، بل هو كما قال ابن حجر والمناوي عليهما رحمة الله بأنه "لا يترك مطلقًا ولا يستعمل مطلقًا
(1)
وبالتالي يمكننا القول بأن الكي يعتريه ثلاثة أحكام، فتارة يكون جائزًا بدون كراهة وتارة يكون مكروهًا، وتارة ثالثة يكون محرمًا، وإليك تفصيل ذلك:
أ - فهو جائز إذا توفرت فيه الشروط التالية:
1 -
إذا دعت الحاجة إليه، قال ابن عبد البر:"ما أعلم بينهم خلافًا أنهم لا يرون بأسًا بالكي عند الحاجة إليه"
(2)
.
2 -
وإذا لم يمكن الاستغناء عنه بغيره، بل تعيَّن كونه طريقًا للعلاج كما لو نزف الدم منه بشدة ولم يمكن إيقافه إلا بالكى وإلا مات، وقد يقال بوجوبه في هذه الحالة لأن عدم فعله فيه تعريض النفس للهلاك ولذلك كوى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ عندما نزف الدم منه وخشى عليه الهلاك.
3 -
وإذا اعتقد أن الشفاء بيد الله تعالى وأن الكى مجرد سبب فقط.
ب - وهو مكروه في الحالات التالية:
(1)
الفتح (10/ 139) فيض القدير (6/ 82).
(2)
التمهيد (24/ 65).
1 -
إذا أمكن الاستغناء عنه بغيره، لما فيه من شدة الألم التي قد تفوق أحيانًا ألم المرض.
2 -
إذا كان قبل نزول البلاء والمرض وذلك لحفظ الصحة ودفع البلاء قبل وقوعه، وكُره في هذه الحالة لما فيه من ضعف التوكل على الله تعالى واستعجال الألم لشيء لم يقع، وإنما يُخشى وقوعه، وقد يُقال بتحريمه في هذه الحالة لما فيه من التعذيب بعذاب الله المنهى عنه.
ج - وهو محرم إذا صَاحَبَه غلوٌّ في نسبة الشفاء إليه مما يترتب عليه نسيان المسبب الحقيقي -الذي هو الله تعالى- والالتفات إلى السبب المخلوق، والالتفات إلى الأسباب شرك فى التوحيد، والله أعلم.
وبِهذا نكون قد أعملنا جميع الأدلة على وجه لا تناقض فيه ولا اختلاف، فعلى الحكم الأول تحمل أحاديث الجواز وعلى الحكمين الآخرين -الكراهة والتحريم- تحمل أحاديث النهي. والله أعلم.
وأما ما ذهب إليه ابن عبد البر رحمه الله من حمل أحاديث النهي على أفضلية ترك الكى ثقة بالله وتوكلًا عليه .. إلخ.
فيُجاب عنه بأن فعل الأسباب لا ينافي اليقين والتوكل على الله تعالى بل إن التوكل على الله تعالى يعتبر أعظم الأسباب نفعًا فكيف ينافيها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتِها قدرًا وشرعًا.
وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة،
ويضعفه من حيث يظن معطِّلها أن تركه أقوى في التوكل، فإن تركها عجزٌ ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بدَّ مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا"
(3)
.
* * *
(3)
زاد المعاد (4/ 15).