الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث الترجيح
لم يفهم أهل العلم من حديث النهي -"وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا"- النهي عن استعمال (لو) مطلقًا، فقد بوَّب البخاري في صحيحه -كما تقدم- باب ما يجوز من اللو، قال ابن حجر تعليقًا على هذه الترجمة:"فيه إشارة إلى أنَّها في الأصل لا تجوز إلا ما استثنى"
(1)
.
وقال الطحاوي: " (لو) ليست مكروهة في كل الأشياء"
(2)
.
وقال القرطبى بعد ذكره لحديث النهي: "ولا يُفهم من هذا أنه لا يجوز النطق بـ (لو) مطلقًا، إذ قد نطق بِها النبي صلى الله عليه وسلم"
(3)
، وهذا الفهم صحيح لورود الأحاديث الكثيرة التي فيها استعمال الشارع لهذه الكلمة، وحاشاه من أن تتناقض أقواله، ولهذا جاءت أقوال أهل العلم في هذه المسألة بالتفصيل -كما تقدم- وذلك للجمع بين هذه النصوص.
ولا شك أن التفصيل في هذه المسألة هو المتعيِّن، ويمكن أن نجعل لهذه المسألة ضابطًا ينتظم جميع استعمالات (لو) ويجمع بين هذه النصوص كما يلي:
الضابط في حكم استعمال (لو) هو: أنها بحسب الحال الباعث والحامل عليها
(4)
، وعلى هذا:
(1)
فتح البارى (13/ 227) بتصرف يسير.
(2)
مشكل الآثار (1/ 72).
(3)
المفهم (6/ 683).
(4)
انظر القول السديد للسعدى (174).
- فإن كان الحامل عليها الضجر والحزن، أو قالها معترضًا على القضاء والقدر أو الشرع أو متمنيًا للشر فهو مذموم محرم
(5)
، وعليه يُحمل النهى الوارد في الحديث.
- وإن كان الحامل عليها بيان محبة الخير والرغبة فيه، والإرشاد والتعليم، وبيان ما ينبغى فعله كان استعمالها جائزًا، بل قد يكون محمودًا، وعليه تُنَزل جميع النصوص التي ورد فيها استعمال الشارع لهذه الكلمة، والله تعالى أعلم.
وهذا الضابط يدخل فيه القول الثاني الذي تقدم ذكره.
- وأما القول الأول والذي فيه التفريق بين استعمال (لو) في الماضى والمستقبل، فالأول منهي عنه، والثاني جائز، فإنه يُشكل عليه حديث:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي"
(6)
ونحوه فإن فيه استعمال (لو) في الماضي
(7)
.
وأيضًا فإن استعمال (لو) في تمني الشر غير جائز مع أنه استعمالٌ لها في الخبر عما يستقبل كما ورد في الحديث: "لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته، فوزرهما سواء"
(8)
.
- وأما ما ذهب إليه الطبري -وهو القول الثالث- فبعيد جدًّا عن ظاهر الحديث، لأنه جعل النهى مخصوصًا بالجزم بالفعل الذي لم يقع، والحديث نص على الفعل إذا وقع كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا .. ".
وأختم هذه المسألة بكلام قيِّم لابن القيِّم رحمه الله قال: "العبد إذا فاته
(5)
انظر القول المفيد للشيخ محمد العثيمين (3/ 122 - 123).
(6)
تقدم تخريجه ص (538).
(7)
انظر مسلم بشرح النووى (16/ 456).
(8)
تقدم تخريجه ص (541) هامش (4).
ما لم يقدر له، فله حالتان: حالة عجز، وهي مفتاح عمل الشيطان فيلفيه العجز إلى (لو) ولا فائدة في (لو) هاهنا، بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح، وأمره بالحالة الثانية وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبق له هاهنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب النافذة التى توجب وجود المقدور، وإذا انتفت امتنع وجوده، فلهذا قال:"وإن أصابك شيء" أي: غلبك الأمر ولم يحصل المقصود بعد بذل الجهد
(9)
والاستعانة بالله فلا تقل: "لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل" فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول مطلوبه، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدًا، بل هو أشد شيء إليه ضرورة"
(10)
.
* * *
(9)
في الأصل (جهده) وزدت الألف واللام لكى يستقيم الكلام.
(10)
نقل ذلك عنه سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد (666) وانظر كلامًا له في نفس المعني في إعلام الموقعين (3/ 157) وزاد المعاد (2/ 357).