الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني مذاهب العلماء تجاه هذا التعارض
اختلف أهل العلم في توجيه هذه الأحاديث اختلافًا كبيرًا فتنوعت مذاهبهم بين محاول للجمع بينها، وقائل بالنسخ، وثالث قد رام الترجيح.
والخلاف مداره أحاديث إثبات الشؤم، وأما أحاديث نفيه فقد اتفق أهل العلم على الأخذ بها وحملها على ظاهرها، وهو النفى والتحريم.
وإليك مذاهبهم في ذلك: -
أولًا: مذهب الجمع:
ويمكن تقسيمه إلى مسلكين:
المسلك الأول: حمل أحاديث الشؤم على ظاهرها وجعلها مخصصة لأحاديث نفى الطيرة فيكون المعنى: لا طيرة إلا في هذه الثلاث، فالطيرة منفية ومحرمة إلا في هذه الأشياء الثلاث فإنها موجودة ومباحة، وإلى هذا ذهب الإمام مالك وابن قتيبة والشوكاني عليهم رحمة الله.
قال الإمام مالك تعليقًا على حديث "الشؤم في ثلاث": "هو على ظاهره، وأن الدار قد يجعل الله سكناها سببًا للضرر والهلاك وكذا اتخاذ المرأة المعينة أو الفرس أو الخادم قد يحصل الضرر عنده بقضاء الله تعالى"
(1)
.
وروى أبو داود عن مالك أنه سُئل عن الشؤم في الفرس والدار؟ قال: "كم من دار سكنها قوم [ناس] فهلكوا ثم سكنها آخرون فهلكوا فهذا
(1)
نقل ذلك عنه النووى في شرحه لمسلم (14/ 472).
تفسيره فيما نرى، والله أعلم"
(2)
.
قال المازري: "فمالك رضي الله عنه أخذ هذا الحديث على ظاهره ولم يتأوله"
(3)
.
وقال القاضي عياض: "وتفسير مالك له في غير الموطأ على ظاهره وذلك بجري العادة من قدر الله في ذلك وهو ظاهر ترجمته له فيه"
(4)
.
حيث قال في ترجمته: "باب ما يتقى من الشؤم"
(5)
(*).
وقال ابن قتيبة تعليقًا على حديث الشؤم أيضًا: "ووجهه أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمهم أن لا طيرة فلما أبوا أن ينتهوا بقيت الطيرة في هذه الأشياء الثلاثة"
(6)
.
قال ابن حجر: "فمشى ابن قتيبة على ظاهره ويلزم على قوله أن من
(2)
رواه أبو داود (عون 10/ 298). وحكم عليه الألباني بأنه صحيح مقطوع. انظر صحيح سنن أبى داود (2/ 742)
(3)
المعلم بفوائد مسلم (3/ 104) بتصرف يسير.
(4)
مشارق الأنوار (2/ 242).
(5)
الموطأ (2/ 972).
(*) وذهب ابن العربى إلى تأويل كلام مالك فقال: لم يرد مالك إضافة الشؤم إلى الدار وإنما هو عبارة عن جرى العادة فيها فأشار إلى أنه ينبغى للمرء الخروج عنها صيانة لاعتقاده عن التعلق بالباطل"، قال ابن حجر: وما أشار إليه ابن العربي في تأويل كلام مالك أولى، والمراد بذلك حسم المادة وسد الذريعة لئلا يوافق شىء من ذلك القدر فيعتقد من وقع له أن ذلك من الطيرة فيقع في اعتقاد ما نَهى عن اعتقاده .. " فتح البارى (6/ 62) بتصرف يسير.
ولكن ما ذهب إليه المازرى والقاضي عياض وتبعهم في ذلك الشوكاني هو الأقرب إلى كلام مالك ولذلك أثبته هنا ولم أثبته في مسلك ابن حجر رحمه الله كما سيأتي.
وقد يقال إن ظاهر كلام مالك رحمه الله هو أن شؤم هذه الأشياء هو ما يقدره الله تعالى فيها من الشر كما أن يُمنها ما يقدره الله تعالى فيها من الخير فتأمل، فيكون بذلك داخلًا في القول السادس من المسلك الثاني كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(6)
نقل ذلك عنه ابن حجر في الفتح (6/ 61).
تشاءم بشىء منها نزل به ما يكره"
(7)
.
وقال الشوكاني: "والراجح ما قاله مالك وهو الذي يدل عليه حديث أنس الذي ذكرنا
(8)
فيكون حديث الشؤم مخصصًا لعموم حديث "لا طيرة" فهو في قوة "لا طيرة إلا في هذه الثلاث""
(9)
.
المسلك الثاني: تأويل حديث الشؤم وحمله على غير ظاهره والسالكون لهذا المسلك من أهل العلم لم يتفقوا على تأويل واحد بل تنوعت طرائقهم وتباينت آراؤهم في تأويل هذا الحديث، وإليك أقوالهم في ذلك: -
القول الأول: أن حديث الشؤم: "سيق لبيان اعتقاد الناس في ذلك لا أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت ذلك"
(10)
.
القول الثاني: أن "معنى الحديث إخباره عن الأسباب المثيرة للطيرة الكامنة في الغرائز، يعني أن المثير للطيرة في غرائز الناس هى هذه الثلاثة فأخبرنا بِها لنأخذ الحذر منها فقال: "الشؤم في الدار والمرأة والفرس" أي أن الحوادث التي تكثر مع هذه الأشياء، والمصائب التى تتوالى عندها تدعو الناس إلى التشاؤم بِها فقال: "الشؤم فيها" أي: أن الله قد يقدره فيها على قوم دون قوم فخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لما استقر عندهم منه صلى الله عليه وسلم من إبطال الطيرة وإنكار العدوى"
(11)
.
القول الثالث: ما ذهب إليه ابن حجر وغيره من أن "المراد بذلك حسم
(7)
المرجع السابق.
(8)
وهو قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذى اشتكى إليه قلة عددهم وذهاب مالهم بعد تحولهم من مسكنهم إلى مسكن آخر: "ذروها ذميمة" وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى ص (128).
(9)
نيل الأوطار (7/ 219).
(10)
الفتح (6/ 61).
(11)
مفتاح دار السعادة (3/ 341).
المادة وسد الذريعة لئلا يوافق شىء من ذلك القدر فيعتقد من وقع له أن ذلك من العدوى أو من الطيرة فيقع في اعتقاد ما نَهي عن اعتقاده فأُشير إلى اجتناب مثل ذلك.
والطريق فيمن وقع له ذلك في الدار مثلًا أن يبادر إلى التحول منها لأنه متى استمر فيها ربما حمله ذلك على اعتقاد صحة الطيرة والتشاؤم"
(12)
.
القول الرابع: أن "الشؤم في هذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها وتطير بها فيكون شؤمها عليه، ومن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير لم تكن مشئومة عليه.
قالوا: ويدل عليه حديث أنس "الطيرة على من تطير"
(13)
.
وقد يجعل الله سبحانه تطير العبد وتشاؤمه سببًا لحلول المكروه به، كما يجعل الثقة والتوكل عليه وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير به"
(14)
.
القول الخامس: هو تفسير الشؤم، فقالوا: إن المراد "بشؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم، وقيل: بعدها عن المساجد وعدم سماع الأذان منها، وشؤم المرأة عدم ولادتِها وسلاطة لسانِها وتعرضها للريب، وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها، وقيل: حِرانُها وغلاء ثمنها، وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه.
(12)
الفتح (6/ 63).
(13)
رواه ابن جرير في تهذيب الآثار (1/ 19)، ح (52)، وابن حبان في صحيحه (13/ 492) ح (6123) وقال الحافظ ابن حجر: في صحته نظر لأنه من رواية عتبة بن حميد وهو مختلف فيه. انظر الفتح (6/ 63). وحسَّن إسناده شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان.
(14)
مفتاح دار السعادة (3/ 340).
وقيل المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة كما جاء في الحديث: "سعادة ابن آدم في ثلاثة وشقوة ابن آدم في ثلاثة، فمن سعادته: المرأة الصالحة والمسكن الواسع والمركب الصالح، ومن شقوته المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء"
(15)
.
وقد أشار البخاري إلى هذا التأويل بأن قرن بالاستدلال بهذا الحديث قوله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}
(16)
.
وذكر في الباب حديث أسامة بن زيد "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"
(17)
"
(18)
.
القول السادس: ما ذهب إليه الخطابي وابن رجب وابن القيم عليهم رحمة الله وهو أن المراد بالشؤم في هذه الأشياء أنها أعيان وظروف وأسباب محسوسة يقدر الله تعالى بها الشؤم واليُمن والضر والنفع فمن ابتلى بشؤمِ شىءٍ منها فوجد في نفسه الكراهة لذلك أُبيح له تركه.
وليس المراد ما يعتقده أهل الجاهلية فيها من أنها مؤثرة بذاتها وطبعها.
قال الخطابي: "اليُمن والشؤم سمتان لما يصيب الإنسان من الخير والشر والنفع والضر ولا يكون شىء من ذلك إلا بمشيئة الله وقضائه وإنما هذه الأشياء محال وظروف جعلت مواقع لأقضيته ليس لها بأنفسها وطباعها فعل ولا تأثير في
(15)
رواه أحمد (3/ 28)، ح (1445)، والحاكم (2/ 175)، ح (2684)، وضعف إسناده أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 39)، ح (1047).
(16)
سورة التغابن: آية (14).
(17)
أخرجه البخارى في كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة (5/ 1959)، ح (4807).
(18)
طرح التثريب (8/ 122).
شىء، إلا أنها لما كانت أعم الأشياء التي يقتنيها الناس، وكان الإنسان في غالب أحواله لا يستغنى عن دار يسكنها وزوجة يعاشرها وفرس يرتبطه، وكان لا يخلو من عارض مكروه في زمانه ودهره أُضيف اليُمن والشؤم إليها إضافة مكان ومحل وهما صادران عن مشيئة الله سبحانه"
(19)
.
وقال أيضًا: "معناه إبطال مذهبهم في الطيرة بالسوانح والبوارح من الطير والظباء ونحوها، إلا أنه يقول: إن كان لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس لا يعجبه ارتباطه فليفارقها بأن ينتقل من الدار ويبيع الفرس، وكان محل هذا الكلام محل استثناء الشىء من غير جنسه، وسبيله سبيل الخروج من كلامٍ إلى غيره"
(20)
.
وقال ابن رجب: "والتحقيق أن يقال في إثبات الشؤم في هذه الثلاث ما ذكرناه في النهى عن إيراد المريض على الصحيح والفرار من المجذوم ومن أرض الطاعون، أنَّ هذه الثلاث أسباب يقدر الله تعالى بها الشؤم واليُمن ويقرنه، ولهذا يشرع لمن استفاد زوجة أو أمة أو دابّة أن يسأل الله تعالى من خيرها وخير ما جبلت عليه، ويستعيذ به من شرها وشر ما جبلت عليه
(21)
"
(22)
.
وقال ابن القيم: "إخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم أنه يكون في هذه الثلاث ليس فيه
(19)
أعلام الحديث (2/ 1379).
(20)
معالم السنن (4/ 218).
(21)
كما روى ابن ماجه (1/ 617)، ح (1918) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادمًا أو دابة فليأخذ بناصيتها وليقل: اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه".
ورواه أيضًا أبو داود (عون 6/ 138)، ح (2160) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 406)، ح (1892).
(22)
لطائف المعارف (83).