الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث الترجيح
لا شك أن مذهب الجمع هو المتعين هنا، والجمع الذي يظهر رجحانه -والله تعالى أعلم- هو: أن التفاضل بين الأنبياء والرسل ثابت وموجود، وبه صرح القرآن كما في قوله تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}
(1)
، وكما في قوله عز وجل:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
(2)
فهذا التفاضل مما نقطع به ونعتقده، وعليه أجمع أهل العلم كما تقدم.
وأما المفاضلة بين رسولين أو نبيين أو تفضيل رسول أو نبي على عدد من الرسل أو عدد من الأنبياء على وجه التعيين -أي تعيين الفاضل والمفضول- فإنه أمر غيبي توقيفي لا بدَّ فيه من دليل فلا يجوز التفضيل بمجرد الرأي.
وأما تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو تفضيل أولي العزم من الرسل فقد دلَّ الدليل عليه كما تقدم.
وهذا القول هو الذي تجتمع به أدلة الكتاب والسنة، وهو معنى القول الثالث المتقدم ذكره.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: "وعندي أنه لا تعارض بين القرآن والسنة، فإن القرآن دلَّ على أن الله فضّل بين أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضِّل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى عليه منها خافية، وليست بمعلومة عند البشر،
(1)
سورة الإسراء. آية (55).
(2)
سورة البقرة. آية (253).
فقد يجهل اتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلًا عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بحميع الأسباب التي يكون بِها هذا فاضلًا وهذا مفضولًا، لا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلِّها، فإن ذلك تفضيل بالجهل، وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له، وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يُفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك، وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يُفضلوا بين أنبياءه"
(3)
.
- وهذا القول وإن كان قريبًا من قول ابن عطية -وهو أن التفضيل جائز إذا كان على وجه العموم، ومنهي عنه إذا كان فيه تعيين للمفضول- إلا أنه أدقَّ منه لأن قول ابن عطية يُشكل عليه مثل قوله تعالى:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}
(4)
حيث استدل بِها بعض أهل العلم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من يونس عليه السلام لأن الله تعالى يقول: لا تكن مثله
(5)
، وعلى هذا تكون هذه الآية ورد فيها تعيين المفضول.
- وأما بقية أقوال الجمع ففيها نظر لا يخفى
(6)
ففي بعضها تكلف ظاهر كما في القول الرابع والخامس، وأما القول الأول والثاني فيمكن أن يقال إن النهي يتأكد عندهما، لأن التفضيل الذي يؤدي إلى انتقاص المفضول أو الإزراء
(3)
فتح القدير (1/ 269).
(4)
سورة القلم. آية (48).
(5)
انظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (109).
(6)
انظر فتح القدير (1/ 269).
به أو يؤدي إلى التشاجر والتنازع يكون منهيًّا عنه حتى عند قيام الدليل على التفضيل.
- وأما مذهب النسخ فبعيدٌ جدًّا لأن القول به يحتاج إلى معرفة التاريخ، حتى نعرف المتقدم من المتأخر علمًا أن بعض السور التي ورد فيها التفضيل مكية كسورة الإسراء والقلم.
كما أن أبا هريرة رضى الله عنه أحد الرواة لأحاديث النهي عن التفضيل وهو لم يسلم إلا في السنة السابعة من الهحرة، فكيف يُتصور مع هذا أن يُقال إن أحاديث النهي منسوخة بآيات التفضيل؟ ! .
* * *