الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني مذاهب العلماء تجاه هدا التعارض
أجمع أهل السنة والجماعة على مذهب واحد فِى هذه النصوص -أعني نصوص العلو والفوقية ونصوص القرب والمعية- وهو مذهب الجمع فلا تعارض عندهم بين هذه النصوص وإنما أتى هذا الوهم من أتى بسبب قياسه الخالق بالمخلوق، وهذا أمر باطل لأن الله تعالى لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته.
فأهل السنة والجماعة يُثبتون لله تعالى العلو والفوقية، وكذلك القرب والمعية، ولا يرون في إثبات هذه الصفات مجتمعة لله تعالى أدنى تناقض فإن الله تعالى ليس كمثله شىء وهو السميع البصير.
وفيما يلي الكلام على كل صفة من هذه الصفات على حدة:
أولًا: صفة العلو والفوقية: دلَّ على إثبات هذه الصفة لله تعالى الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.
- أما الكتاب فهو ملىء بالآيات المتنوعة الدلالة على علو الله تعالى وفوقيته حتى نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض أكابر أصحاب الشافعى قوله: "في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله تعالى عالٍ على الخلق، وأنه فوق عباده"
(1)
.
وإليك نماذج من أنواع الأدلة الدالة على علو الله تعالى:
الأول: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتًا وقدرًا وشرفًا كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى (5/ 12).
(2)
سورة البقرة. آية (255).
الثاني: التصريح بالفوقية مقرونًا بأداة "من" المعينة للفوقية بالذات كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}
(3)
.
الثالث: التصريح بالعروج إليه نحو {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}
(4)
.
الرابع: التصريح بالصعود إليه كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}
(5)
.
الخامس: التصريح بالاستواء مقرونًا بأداة "على" مُختصًّا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات، كما في قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
(6)
.
السادس: التصريح بتنْزيل الكتاب منه كقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
(7)
.
- وأما دلالة السنة على علو الله تعالى فقد سبقت الإشارة إلى نماذج كثيرة في ذلك، مما يغني عن إعادتِها، وقد جاءت تلك النصوص دالة على علو الله تعالى بالقول والفعل والإقرار:
أما القول: فكما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء".
وأما الفعل: فكما في إشارته صلى الله عليه وسلم بإصبعه السبابة إلى الله تعالى في العلو.
وأما الإقرار: فكما في إقراره صلى الله عليه وسلم للجارية حين سألها: "أين الله؟ " قالت: في السماء.
- وأما دلالة الإجماع على علو الله تعالى: فقد نقل عدد كبير من أهل
(3)
سورة النحل. آية (50).
(4)
سورة المعارج. آية (4).
(5)
سورة فاطر. آية (10).
(6)
سورة الأعراف. آية (54).
(7)
سورة الزمر. آية (1). ولمزيد الاطلاع انظر: شرح العقيدة الطحاوية (381 - 386).
العلم الإجماع على علو الله تعالى وإليك أقوالهم في ذلك:
قال الأوزاعى: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا"
(8)
.
وقال سعيد بن عامر الضبعي، وقد ذُكر عنده الجهمية قال:"هم شر قولًا من اليهود والنصارى، وقد أجمع أهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شىء"
(9)
.
وقال إسحاق بن راهويه: "قال الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
(10)
إجماع أهل السنة أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شىء أسفل الأرض السابعة .. "
(11)
.
وقال قتيبة بن سعيد: "هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة نعرف ربنا سبحانه بأنه في السماء السابعة على عرشه كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} "
(12)
.
وقال عثمان بن سعيد الدارمى: "قد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء"
(13)
.
(8)
أخرجه البيهقي: في الأسماء والصفات (2/ 304)، والذهبي في "العلو" ص (136)، وصحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الفتاوى (5/ 39) وابن القيم: كما في اجتماع الجيوش الإسلامية ص (131)، وقال في مختصر الصواعق (2/ 414):"ورواته كلهم أئمة ثقات".
(9)
انظر: مجموع الفتاوى (5/ 52)، اجتماع الجيوش الإسلامية (226)، العلو للذهبى (179).
(10)
سورة طه. آية (5).
(11)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (6/ 260). اجتماع الجيوش الإسلامية (226)، العلو للذهبى (179).
(12)
انظر: درء التعارض (6/ 260)، اجتماع الجيوش الإسلامية (231) العلو للذهبى (174).
(13)
نقض الإمام أبي سعيد على المريسى الجهمي العنيد (1/ 228).
وقال ابن بطة: "وأجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين، أن الله تبارك وتعالى على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه، وعلمه محيط بجميع خلقه"
(14)
.
وقال أبو عمر الطلمنكي: "أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته" وقال أيضًا: "أجمع أهل السنة على أن الله على العرش على حقيقته لا على المجاز"
(15)
.
وقال أبو عثمان الصابوني: "وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه، وعرشه فوق سماواته"
(16)
.
وقال ابن عبد البر معلقًا على حديث النُّزول: "فيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة"
(17)
.
وقال سعد بن على الزنجاني: "وقد أجمع المسلمون على أن الله هو العلى الأعلى ونطق بذلك القرآن بقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}
(18)
، وأن لله علو الغلبة والعلو الأعلى من سائر وجوه العلو، لأن العلو صفة مدح عند كل عاقل، فثبت بذلك أن لله علو الذات وعلو الصفات وعلو القهر والغلبة، وجماهير المسلمين وسائر الملل قد وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله جل ثناؤه من جهة الفوق في الدعاء والسؤال، فاتفاقهم بأجمعهم على الإشارة إلى الله سبحانه من جهة الفوق حجة، ولم يستجز أحد الإشارة إليه من جهة
(14)
المختار من الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (136).
(15)
انظر: درء التعارض (6/ 250)، اجتماع الجيوش (142) العلو للذهبى (246).
(16)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث (176).
(17)
التمهيد (7/ 129).
(18)
سورة الأعلى. آية (1).
الأسفل ولا من سائر الجهات سوى جهة الفوق"
(19)
.
وقال الإمام إسماعيل بن محمد التيمي: "وقد أجمع المسلمون أن الله سبحانه العلى الأعلى ونطق بذلك القرآن .. وعند المسلمين أن لله عز وجل علو الغلبة، والعلو من سائر وجوه العلو لأن العلو صفة مدح فثبت أن لله تعالى علو الذات وعلو الصفات وعلو القهر والغلبة"
(20)
.
وقال ابن قدامة بعد ما ساق شيئًا من أدلة العلو: "فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده ولا تأويله ولا تشبيهه ولا تمثيله"
(21)
.
وقال أيضًا: "أما بعد: فإن الله تعالى وصف نفسه بالعلو فِى السماء ووصفه بذلك رسوله محمد خاتم الأنبياء، وأجمع القول على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء والأئمة من الفقهاء وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله تعالى عليه قلوب المسلمين وجعله مغروزًا في طباع الخلق أجمعين"
(22)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: "وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه عليٌّ على خلقه"
(23)
.
(19)
انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (197).
(20)
انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (182).
(21)
لمعة الاعتقاد بشرح العثيمين (65).
(22)
صفة العلو. لابن قدامة ص (12).
(23)
العقيد الواسطة بشرح الهراس (193).
وقال الذهبي: "مقالة السلف وأئمة السنة بل والصحابة والله ورسوله والمؤمنون: أن الله عز وجل في السماء، وأن الله على العرش، وأن الله فوق سماواته، وأنه ينْزل إلى السماء الدنيا، وحجتهم على ذلك النصوص والآثار"
(24)
.
وأما المأثور عن سلف هذه الأمة في إثبات هذه الصفة لله تعالى، فلا يكاد يحصى كثرة، ولكن فيما ذكرته من الإجماعات غنية وكفاية.
- وأما دلالة العقل على علو الله تعالى فمن وجهين:
"الوجه الأول: أن العلو صفة كمال والله تعالى قد ثبت له كل صفات الكمال فوجب إثبات العلو له سبحانه.
الوجه الثاني: إذا لم يكن عاليًا فإما أن يكون تحت أو مساويًا، وهذا صفة نقص، لأنه يستلزم أن تكون الأشياء فوقه أو مثله، فلزم ثبوت العلو له.
- وأما الفطرة: فلا أحد ينكرها، إلا من انحرفت فطرته، فكل إنسان يقول: يا الله! يتجه قلبه إلى السماء لا ينصرف عنه يمنة ولا يسرة لأن الله تعالى في السماء"
(25)
.
يُذكر أن أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: "كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ فلطم أبو المعالي على
(24)
العلو (143).
(25)
شرح العقيدة الواسطة للعثيمين (2/ 78).
رأسه ونزل وقال: "حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاني"
(26)
قال ابن قتيبة: "والأمم كلها -عربيها وعجميها- تقول: إن الله تعالى فى السماء ما تُركت على فطرها، ولم تُنقل عن ذلك بالتعليم"
(27)
.
وقال أبو الحسن الأشعري: "ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العريق الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش"
(28)
.
وقال ابن عبد البر: "ومن الحجة أيضًا في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربَهم أمر ونزلت بِهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربَّهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة، من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم"
(29)
.
وأخيرًا مما ينبغى التنبيه عليه أن صفة العلو لله تعالى لا يحتاج إثباتُها إلى كثير أدلة لأن إثبات هذه الصفة لله تعالى فطرة وعقيدة مغروزة في النفوس -كما تقدم- لا يجادل فيها إلا مكابر أو منحرف الفطرة ولا عبرة بِهما، ولكن لما كثر التلبيس على الناس ممن زين لهم الشيطان سوء أعمالهم احتاج أهل العلم إلى حشد النصوص الكثيرة فى هذه المسألة -من الكتاب والسنة وما أثر عن سلف هذه الأمة- فصنفوا المصنفات العديدة المفردة في إثبات هذه الصفة لله تعالى
(30)
والله المستعان.
(26)
انظر شرح العقيدة الطحاوية (390)، مجموع الفتاوى (4/ 61).
(27)
تأويل مختلف الحديث (252).
(28)
الإبانة عن أصول الديانة (97).
(29)
التمهيد (7/ 134).
(30)
انظر مثلًا: العلو لابن قدامة، العلو للذهبى، اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم.
ثانيًا: صفة المعية: دل على إثبات هذه الصفة لله تعالى الكتاب والسنة:
أما الكتاب: ففى مثل قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}
(31)
وقوله عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}
(32)
.
وأما السنة: ففى مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا قريبًا، وهو معكم"
(33)
.
وهذه المعية لا توجب حلولًا ولا اختلاطًا، ولا تنافي علو الله تعالى، لأن معناها بإجماع أهل العلم
(34)
: العلم والإحاطة، أي: أن الله تعالى معنا بعلمه وإحاطته، وهي عند أهل السنة والجماعة على نوعين:
أحدهما: معية عامة أي: مع الخلق كلهم، ومثالها ما سبق من قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ومقتضى هذه المعية: العلم والإحاطة والقدرة والسلطان.
ثانيهما: معية خاصة بأنبيائه وأوليائه، ومثالها قوله تعالى:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
(35)
وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}
(36)
ومقتضى هذه المعية: النصرة والإعانة والتأييد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لفظ المعية -في اللغة- وإن اقتضى المجامعة
(31)
سورة المجادلة. آية (7).
(32)
سورة الحديد. آية (4).
(33)
سبق تخريجه ص (265).
(34)
سيأتي قريبًا ذكر من حكى الإجماع ص (289).
(35)
سورة التوبة. آية (40).
(36)
سورة النحل. آية (128).
والمصاحبة والمقارنة
(37)
: فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد"
(38)
، وهذه المعاني للمعية هي قول أهل اللغة أيضًا
(39)
.
ثالثًا: قرب الله تعالى من عباده: دل على إثبات هذا القرب لله تعالى الكتاب والسنة:
أما الكتاب ففي مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}
(40)
.
وأما السنة: ففى مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم"
(41)
، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه:"وإن تقرب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا"
(42)
.
وهذا القرب الذي وصف الله تعالى به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا ينافي علو الله تعالى بل هو تعالى بإجماع السلف قريب في علوه عالٍ في قربه، لأنه تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
(37)
انظر: تَهذيب اللغة للأزهري (3/ 248) مادة (معا)، تاج العروس (22/ 210) مادة (مع)، لسان العرب (8/ 340) مادة (معع).
(38)
شرح حديث النُّزول (360) وانظر: مجموع الفتاوى له (5/ 122) ومختصر الصواعق (2/ 456) والرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد (95 - 97) مطبوع ضمن كتاب عقائد السلف للنشار.
(39)
انظر تَهذيب اللغة (3/ 248، 249) مادة (معا)، تاج العروس (22/ 210، 211) مادة (مع)
(40)
سورة البقرة. آية (186).
(41)
سبق تخريجه ص (265).
(42)
سبق تخريجه ص (265).
قال ابن القيم: "وإن عسر على فهمك اجتماع الأمرين فإنه يوضح ذلك معرفة إحاطة الرب وسعته وأنه أكبر من كل شىء وأن السموات السبع والأرضين في يده كخردلة في كف العبد، وأنه يقبض سمواته السبع بيده والأرضين باليد الأخرى ثم يهزهن، فمَن هذا شأنه كيف يعسر عليه الدنو ممن يريد الدنو منه وهو على عرشه، وهو يوجب لك فهم اسمه الظاهر والباطن وتعلم أن التفسير الذي فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم به هذين الاسمين هو تفسير الحق المطابق لكونه بكل شيء محيط وكونه فوق كل شىء"
(43)
.
بقي أن نعلم هل قرب الله تعالى الوارد في الكتاب والسنة:
- يكون بتقريب العبد إليه فكلما قرب منه العبد كان الله تعالى قريبًا منه بالضرورة كمن قرب إلى مكة فإنها تكون قريبة منه بالضرورة دون أن يلزم منها حركة.
- أم أن المراد بقرب الله تعالى: قربه بعلمه وقدرته وتدبيره من جميع خلقه.
- أم أن المراد بقربه تعالى: قربه بنفسه.
* أما الأول: فمحل إجماع بين أهل السنة بل هو قول كل من يثبت أن الله تعالى فوق العرش حتى من غير أهل السنة، قال الإمام الدارمي: "من آمن بأن الله فوق عرشه فوق سمواته علم يقينًا أن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله، وأن السماء السابعة أقرب إلى عرش الله تعالى من السادسة، والسادسة أقرب إليه من الخامسة ثم كذلك إلى الأرض.
وقرب الله إلى جميع خلقه أقصاهم وأدناهم واحد لا يبعد عنه شىء من
(43)
مختصر الصواعق (2/ 428) وانظر (2/ 460).
خلقه، وبعض الخلق أقرب من بعض على نحو ما فسرنا من أمر السموات والأرض، وكذلك قرب الملائكة من الله، فحملة العرش أقرب إليه من جميع الملائكة الذين في السموات، والعرش أقرب إليه من السماء السابعة، وقرب الله إلى جميع ذلك واحد، هذا معقول مفهوم إلا عند من لا يؤمن أن فوق العرش إلهًا"
(44)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقربه من قلب الداعى: له معنى متفق عليه بين أهل الإثبات الذين يقولون: إن الله فوق العرش، ومعنى آخر فيه نزاع
(45)
فالمعنى المتفق عليه عندهم: يكون بتقريبه قلب الداعي إليه، كما يقرب إليه قلب الساجد كما ثبت في الصحيح:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"
(46)
، فالساجد يقرب الرب إليه فيدنو قلبه من ربه، وإن كان بدنه فى الأرض، ومتى قرب أحد الشيئين من الآخر صار الآخر إليه قريبًا بالضرورة، وإن قدر أنه لم يصدر من الآخر تحرك بذاته، كما أن من قرب من مكة، قربت مكة منه"
(47)
.
وقال أيضًا: "أهل السنة والجماعة يثبتون أن الله على العرش وأن حملة العرش أقرب إليه ممن دونَهم، وأن ملائكة السماء العليا أقرب إلى الله من ملائكة السماء الثانية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عُرج به إلى السماء صار يزداد قربًا إلى ربه بعروجه وصعوده، وكان عروجه إلى الله لا إلى مجرد خلق من خلقه، وأن روح المصلي تقرب إلى الله في السجود وإن كان بدنه متواضعًا، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب"
(48)
.
وقال أيضًا: "فقرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبِهم منه: أمر
(44)
النقض على المريسى (1/ 504).
(45)
وهو الثالث الآتي قريبًا.
(46)
سبق تخريجه ص (265).
(47)
شرح حديث النُّزول (376).
(48)
مجموع الفتاوى (6/ 7) بتصرف يسير.
معروف لا يُجهل فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة والذكر والخشية والتوكل، وهذا متفق عليه بين الناس كلهم"
(49)
.
وأما المعنى الثاني: وهو أن المراد بقرب الله تعالى: قربه بعلمه وقدرته فمحل إجماع أيضًا من أهل السنة والجماعة وغيرهم من الطوائف إلا من ينكر علمه القديم من القدرية الأولى
(50)
وغيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قربه الذي هو من لوازم ذاته مثل العلم والقدرة، فلا ريب أنه قريب بعلمه وقدرته وتدبيره من جميع خلقه لم يزل بِهم عالمًا ولم يزل عليهم قادرًا.
هذا مذهب جميع أهل السنة وعامة الطوائف إلا من ينكر علمه القديم من القدرية والرافضة
(51)
، ونحوهم، أو ينكر قدرته على الشيء قبل كونه من
(49)
مجموع الفتاوى (5/ 133).
(50)
القدرية: تنقسم القدرية النفاة إلى فرقتين:
1 -
القدرية الأولى أو الغلاة: وهم الذين ينكرون سبق علم الله بالأشياء قبل وجودها ويزعمون أن الله لم يقدر الأمور أزلًا ولم يتقدم علمه بها وإنما يأتنفها علمًا حال وقوعها.
2 -
الفرقة الثانية: وهم الذين يقرون بتقدم علم الله تعالى لأفعال العباد قبل وقوعها لكنهم خالفوا السلف في زعمهم أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى ولا مقدورة له وأن العباد هم الموجدون والخالقون لأعمالهم وأفعالهم على جهة الاستقلال. وهذا المذهب هو الغالب عليهم الآن.
وأول من أظهر بدعة القدر -كما يرجحه كثير من المحققين- معبد الجهنى ثم بعد ذلك ظهرت المعتزلة فتبنت هذه البدعة ونشرتْها، وإن كانت لم تأخذ هذه البدعة بكاملها لأَنَّها آمنت بعلم الله المتقدم وكتابته السابقة (انظر مسلم بشرح النووي (1/ 259، 269) الفرق بين الفرق (25) مجموع الفتاوى (8/ 450، 429) لوامع الأنوار (1/ 300 - 301).).
(51)
الرافضة: اسم يطلق على كل من رفض إمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكان سبب هذه التسمية وأول ظهورها أنه لما خرج زيد بن علي بن الحسين في أوائل المائة الثانية في خلافة هشام بن عبد الملك اتبعه الشيعة فسئلوه عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فتولاهما وترحم عليهما فرفضه قوم منهم فقال: رفضتموني رفضتموني فسموا الرافضة. وقد افترقت الرافضة بعد ذلك إلى أربع فرق: زيدية وإمامية وكيسانية وغلاة. وافترقت هذه الفرق إلى فرق أخرى كثيرة.
الرافضة والمعتزلة
(52)
وغيرهم"
(53)
.
وأما المعنى الثالث: وهو كون المراد بقربه: قربه بنفسه ففيه قولان لأهل السنة حكاهما شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه قال بعدما ذكر أن أهل السنة والجماعة يثبتون قرب الله تعالى إلى العباد بتقريبهم إليه قال: "ثم قرب الرب من عبده هل هو من لوازم هذا القرب كما أن المتقرب إلى الشيء الساكن كالبيت المحجوج والجدار والجبل كلما قربت منه قرب منك؟ أو هو قرب آخر يفعله الرب كما أنك إذا قربت إلى الشىء المتحرك إليك تحرك أيضًا إليك، فمنك فعل ومنه فعل آخر، هذا فيه قولان لأهل السنة"
(54)
.
وقال أيضًا: "وأما أهل السنة فعندهم مع التجلى
(55)
والظهور تقرب
= ومن عقائد الرافضة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على استخلاف على بن أبي طالب باسمه وأظهر ذلك وأعلنه وأن أكثر الصحابة ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف .. الخ "انظر مقالات الإسلاميين (1/ 89) الفرق بين الفرق (29) مجموع الفتاوى (13/ 35) ".
(52)
المعتزلة: فرقة من الفرق الضالة من رؤوسها ومؤسسيها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد تعتقد نفى صفات الله تعالى الأزلية وعدم إثباتِها، وأن صاحب الكبيرة في الدنيا في منْزلة بين المنْزلتين وفي الآخرة خالد مخلد في النار، وفي باب القدر تعتقد مذهب القدرية النفاة أى أن الله غير خالق لأفعال العباد وأن العباد هم الخالقون لها على جهة الاستقلال.
قيل في سبب تسميتهم بالمعتزلة أن واصل بن عطاء كان من منتابي مجلس الحسن البصري فلما قال بالمنْزلة
بين المنْزلتين علم بذلك الحسن البصري فطرده عن مجلسه فاعتزل عند سارية من سواري المسجد وانضم
إليه قرينه في الضلالة عمرو بن عبيد، فقال الناس يومئذ فيهما: إنَّهما قد اعتزلا قول الأمة وسمى أتباعهما
من يومئذ: معتزلة (انظر مقالات الإسلاميين (1/ 235، 298) الفرق بين الفرق (112 - 116) الإرشاد
إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للحوبني (79) الملل والنحل (1/ 43 - 46))
(53)
مجموع الفتاوى (6/ 13). وانظر شرح حديث النُّزول (365).
(54)
مجموع الفتاوى (6/ 8).
(55)
أى إثبات التحلى لله تعالى كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} سورة الأعراف. أية (143).
ذات العبد إلى ذات ربه، وفي جواز دنو ذات الله القولان"
(56)
.
وبِهذا يتبين أن إثبات قرب الله تعالى بنفسه فيه قولان لأهل السنة:
القول الأول: أن الله تعالى يقرب بنفسه وإلى هذا مال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عليهما رحمة الله تعالى، قال شيخ الإسلام: "وأما قرب الرب قربًا يقوم به بفعله القائم بنفسه: فهذا تنفيه الكلابية
(57)
ومن يمنع قيام الأفعال الاختيارية بذاته، وأما السلف وأئمة الحديث والسنة فلا يمنعون ذلك وكذلك كثير من أهل الكلام.
فنُزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا ونزوله عشية عرفة .. ونحو ذلك: هو من هذا الباب، ولهذا حد النُّزول بأنه إلى السماء الدنيا، وكذلك تكليمه لموسى عليه السلام، فإنه لو أريد مجرد تقريب الحجاج وقوَّام الليل إليه لم يخص نزوله بسماء الدنيا، كما لم يخص ذلك في إجابة الداعى وقرب العابدين له، قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}
(58)
.
وقال أيضًا: "فقرب الشيء من الشىء مستلزم لقرب الآخر منه، لكن قد يكون قرب الثاني هو اللازم من قرب الأول ويكون منه أيضًا قرب بنفسه.
فالأول: كمن تقرب إلى مكة أو حائط الكعبة، فكلما قرب منه قرب
(56)
مجموع الفتاوى (6/ 8).
(57)
الكلابية: هم أتباع أبى محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، يثبتون الأسماء ويثبتون الصفات الخبرية في الجملة إذ أَنَّهم ينفون تعلق الصفات بالمشيئة -الصفات الاختيارية- ويقولون إن هذه الصفات لازمة لذاته قديمة أزلية، فلا يرضى في وقت دون وقت .. ، وإثباتُهم للصفات إنما هو على طريقة أهل الكلام، ولذلك يسميهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: متكلمة أهل الإثبات، وهم يوافقون السلف في أكثر جمل مقالاتِهم ولا يطعنون فيهم. انظر مجموع الفتاوى (3/ 103)(4/ 147، 156)(5/ 410)(6/ 219) مقالات الإسلاميين (1/ 249)(2/ 225) شرح العقيدة الطحاوية (687).
(58)
شرح حديث النُّزول (377).
الآخر منه من غير أن يكون منه فعل.
والثاني: كقرب الإنسان إلى من يتقرب هو إليه كما تقدم في هذا الأثر الإلهي
(59)
، فتقرب العبد إلى الله وتقريبه له نطقت به نصوص متعددة مثل قوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}
(60)
ونحو ذلك، فهذا قرب الرب نفسه إلى عبيده وهو مثل نزوله إلى السماء الدنيا .. فإذا تبين ذلك: فالداعي والساجد يوجه روحه إلى الله تعالى، والروح لها عروج يناسبها، فتقربُ إلى الله بلا ريب بحسب تخلصها من الشوائب، فيكون الله عز وجل منها قريبًا قربًا يلزم من تقربِها.
ويكون منه قرب آخر كقربه عشية عرفة وفي جوف الليل وإلى من تقرب منه شبرًا تقرب منه ذراعًا"
(61)
.
ولكن مع إثبات شيخ الإسلام لقرب الله تعالى بنفسه فإنه لا يجعله المراد في جميع النصوص التي ورد فيها القرب وإنما ينظر إلى النص الوارد فيحمله على المعنى الذي دل عليه سواء كان المعنى الأول للقرب أو الثاني أو الثالث.
قال رحمه الله تعالى: "ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يُراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة وينظر في النص الوارد فإن دلَّ على هذا حمل عليه وإن دل على هذا حمل عليه"
(62)
.
وقال ابن القيم: "والأصل أن الله قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم، فيكون قد أخبر عن قرب ذاته وقرب ثوابه من المحسنين"
(63)
.
(59)
يقصد الحديث القدسي: "من تقرب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا .. ".
(60)
سورة الإسراء. آية (57).
(61)
مجموع الفتاوى (5/ 129) وانظر (5/ 240، 466)(6/ 23).
(62)
مجموع الفتاوى (6/ 14).
(63)
مختصر الصواعق (2/ 459).
وقال أيضًا: "فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربًا ليس له نظير، وهو مع ذلك فوق سمواته على عرشه"
(64)
.
القول الثاني: تفسير قرب الله تعالى الوارد في النصوص إما بالعلم وإما بتقريب عبده إليه وعدم حمله على معنى أنه يقرب بنفسه، كما أُثر ذلك عن مقاتل بن حيان أنه قال: "بلغنا -والله أعلم- في قوله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ} قبل كل شيء {وَالْآخِرُ} بعد كل شيء {وَالظَّاهِرُ} فوق كل شيء {وَالْبَاطِنُ}
(65)
أقرب من كل شيء وإنما نعني بالقرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه"
(66)
.
وقال البغوي في تفسير قوله: {وَالْبَاطِنُ} : "العالم بكل شيء، هذا معنى قول ابن عباس"
(67)
.
وقال شيخ الإسلام: "وطائفة من أهل السنة: تفسر القرب في الآية والحديث
(68)
بالعلم لكونه هو المقصود، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعى حصل مقصوده، وهذا هو الذي اقتضى أن يقول من يقول: إنه قريب من كل شيء بمعنى: العلم والقدرة، فإن هذا قد قاله بعض السلف -كما تقدم عن مقاتل بن حيان- وكثير من الخلف"
(69)
.
والذي يسعى في هذا المقام هو إثبات ما جاء في الكتاب والسنة وأجمع
(64)
المرجع السابق (2/ 460).
(65)
سورة الحديد. آية (3).
(66)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 342) وانظر شرح حديث النزول لشيخ الإسلام ابن تيمية (361) والعلو للذهبى (137).
(67)
تفسير البغوي (4/ 293).
(68)
يعني بالآية قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي .. } وبالحديث: "إنكم لا تدعون أصمَّ .. ".
(69)
شرح حديث النُّزول (365).
عليه سلف هذه الأمة من إثبات قرب الله تعالى قربًا يليق بجلاله وعظمته من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف وأنه لا يُنافي علوه لأنه تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأختم هذه المسألة بكلام جميل للشيخ حافظ الحكمى قال رحمه الله: "بل نقول آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نطلب إمامًا غير الكتاب والسنة، ولا نتخطاهما إلى غيرهما، ولا نتجاوز ما جاء فيهما فننطق بما نطقا به ونسكت عما سكتا عنه ونسير سيرهما حيث سارا ونقف معهما حيث وقفا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"
(70)
.
تنبيه:
إذا قلنا إن الله تعالى قريب من عبده بالإجابة أو أنه يقرب من عبده بنفسه أو أنه يقرب من عبده بتقريب عبده إليه، فمرادنا بالعبد هنا: العبد المؤمن، وعلى هذا يكون قربه تعالى بِهذا المعنى من صفاته الفعلية الاختيارية، وأما إذا فسرنا القرب بمعنى: قربه بعلمه وإحاطته وقدرته فلا شك أنه يشمل جميع العباد مؤمنهم وكافرهم، ويكون القرب على هذا المعنى صفة ذاتية لازمة له تعالى.
وبالتالي فلا يصح أن نصف الله تعالى بالقرب على وجه الإطلاق إلا إذا أردنا المعنى الثاني، كما أنه لا يصح وصف الله تعالى بالمعية على وجه الإطلاق إلا إذا أريد بِها المعية العامة والله تعالى أعلم.
وهل يقسم القرب إلى عام وخاص كما هو الحال في المعية أم لا؟
أما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فيرفضان هذا التقسيم، قال
(70)
معارج القبول (1/ 129). ويُروى أول هذا الكلام عن الشافعى رحمه الله تعالى. انظر مجموع الفتاوى (4/ 2، 6/ 354).
شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلًا، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام"
(71)
.
وقال أيضًا: "ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود"
(72)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "ولم يجيء القرب كما جاءت المعية خاصة وعامة، فليس في القرآن ولا في السنة أن الله قريب من كل أحد وأنه قريب من الكافر والفاجر وإنما جاء خاصًّا"
(73)
.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن القرب نوعان:
أحدهما: عام يتضمن علمه بكل شىء، وقدرته على كل شىء، وعلى هذا جاء تفسير بعض السلف لقوله تعالى:{وَالْبَاطِنُ} فقد فسروه بالقرب وفسروا القرب بالعلم والقدرة كما تقدم عن مقاتل بن حيان
(74)
.
والثاني: خاص يتضمن دنوه وقربه ممن شاء من عباده وتقريبه لمن يشاء منهم
(75)
.
وأما ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عليهما رحمة الله من أنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة وصف الله تعالى بالقرب العام: فليس
(71)
شرح حديث النُّزول (354) وانظر (362، 363).
(72)
المرجع السابق (355) وانظر مجموع الفتاوى (5/ 240، 247).
(73)
مختصر الصواعق (458).
(74)
انظر: ص (284).
(75)
انظر طريق الهجرتين لابن القيم (51 - 54) الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين للشيخ عبد الرحمن السعدي (245)، مطبوع ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي رقم (3) التنبيهات السنية على العقيدة الواسطة لعبد العزيز الرشيد (204) علو الله على خلقه لموسى الدويش (276).
مرادهم -والله أعلم- نفي ورود المعنى العام للقرب، وإنما مرادهم نفي أن يكون هذا المعنى العام ورد وجاء بلفظ (القرب) وأما أن يكون ورد بلفظ آخر يحمل معنى القرب كالباطن مثلًا فلا يخالفان فيه، ومما يدل على ذلك أنه قد ورد عنهما إثبات هذا المعنى العام للقرب قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"قربه الذي هو من لوازم ذاته مثل العلم والقدرة فلا ريب أنه قريب بعلمه وقدرته وتدبيره من جميع خلقه، لم يزل بهم عالمًا ولم يزل عليهم قادرًا، هذا مذهب جميع أهل السنة"
(76)
.
وقال ابن القيم: "فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله بعده: فالأول: قِدَمُه، والآخر: دوامه وبقاؤه، والظاهر: علوه وعظمته، والباطن: قربه ودنوَّه"
(77)
.
وقال أيضًا: "بل ظهر على كل شىء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شىء من نفسه وهو محيط به حيث لا يحيط الشىء بنفسه .. فهذا أقرب للإحاطة العامة.
وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقرب خاص من عابديه وسائليه وداعيه وهو ثمرة التعبد باسمه الباطن قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}
(78)
.. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"
(79)
.. فهذا قرب خاص غير قرب الإحاطة والبطون"
(80)
.
(76)
مجموع الفتاوى (6/ 13).
(77)
طريق الهجرتين (54).
(78)
سورة البقرة، آية (186).
(79)
تقدم تخريجه ص (265).
(80)
طريق الهجرتين (51 - 52).
وبِهذا يتضح أن شيخ الإسلام وابن القيم عليهما رحمة الله يُثبتان القرب العام، لكن ليس بدلالة النصوص التي ورد فيها لفظ القرب، كما أنه بِهذا يتبيَّن أن الخلاف في هذا التقسيم لفظي، والله تعالى أعلم
* * *