الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى صار ذلك صدا على قلوبهم، فعمّى عليهم معرفة الحق والباطل. والرين: الصدأ. {ما كانُوا يَكْسِبُونَ} من المعاصي، فهو كالصدأ.
{كَلاّ} ردع عن الكسب الزائن. {يَوْمَئِذٍ} يوم القيامة. {لَمَحْجُوبُونَ} فلا يرونه، بخلاف المؤمنين، ومن أنكر الرؤية جعله تمثيلا لإهانتهم بإهانة حجاب الملوك الذين يمنعون عن الدخول عليهم. {لَصالُوا الْجَحِيمِ} لداخلو النار المحرقة وملازموها. {ثُمَّ يُقالُ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} يقول لهم الزبانية: هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به.
المناسبة:
بعد بيان عظم ذنب التطفيف، وبيان سببه وهو إنكار البعث والحساب أو الغفلة عنهما، ردعهم الله تعالى عن الأمرين معا، ثم بيّن أن كل ما يعمل من خير أو شر، فإنه مكتوب مسطر عند الله، وأوعد منكري البعث المكذبين به، والقائلين بأن القرآن أساطير الأولين، وليس وحيا من عند الله، ثم زجرهم عن هذه المقولة الباطلة، وأوضح سببها وهو انغماسهم في المعاصي التي حجبت قلوبهم عن رؤية الحق والباطل، فصاروا لا يميزون بين الخير والشر، وأعقب ذلك بيان جزائهم وهو طردهم من رحمة الله ودخولهم نار جهنم وملازمتهم لها.
وقدّم ديوان الشر عن ديوان الخير؛ لأن المذكور قبله هو وعيد أهل الفجور، فناسب إيراد حال الأشرار أولا.
التفسير والبيان:
{كَلاّ، إِنَّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجِّينٍ} أي ارتدعوا وانزجروا عما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب، فإن الفجار ومنهم المطففون أعمالهم مكتوبة في ديوان الشر وسجل أهل النار وهو السجين، أو في حبس وضيق شديد، فكلمة {سِجِّينٍ} من السجن: وهو الضيق والحبس.
{وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ} أي وما أعلمك أنت ولا قومك
ما هو السجين؟ إنه الكتاب الذي رصدت فيه أسماؤهم، فهو كتاب مسطور بيّن الكتابة، جامع لأعمال الشر الصادر من الشياطين والكفرة والفسقة. وهذا السجل المسمى بالسجين هو السجل الكبير أو العظيم، الذي فيه لكل فاجر صحيفة.
وهذا هو الظاهر في معنى كلمة {سِجِّينٍ} . وقد عرفنا سابقا أن بعضهم يرى أن السجين هو مكان وهو جهنم وهي أسفل السافلين، لذا قال محمد بن كعب القرظي: قوله تعالى: {كِتابٌ مَرْقُومٌ} ليس تفسيرا لقوله: {وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟} وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين، أي مرقوم مكتوب مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد، ولا ينقص منه أحد
(1)
. وهو رأي النحويين كما تقدم.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي عذاب شديد يوم القيامة لمن كذب بالبعث والجزاء وبما جاء به الرسل، فهؤلاء المكذبون هم الذين لا يصدقون بوقوع الجزاء، ولا يعتقدون كونه، ويستبعدون أمره. وهذا وعيد للذم لا للبيان؛ لأن كل مكذب فالوعيد يتناوله، سواء كان مكذبا بالبعث أو بسائر آيات الله تعالى.
ثم أبان الله تعالى صفات من يكذب بيوم الدين وهي ثلاث، فقال:
{وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاّ كُلُّ مُعْتَدٍ، أَثِيمٍ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي لا يكذب بيوم الدين إلا من كان متصفا بهذه الصفات الثلاث:
وهي أولا-كونه معتديا، أي فاجرا جائرا متجاوزا منهج الحق، ثانيا-أنه أثيم: وهو المنهمك في الإثم في أفعاله، من تعاطي الحرام وتجاوز المباح، وفي أقواله: إن حدّث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر، وثالثا-أنه إذا
(1)
تفسير ابن كثير: 485/ 4
تلي عليه القرآن قال: أساطير الأولين، أي أخبار الأولين المتقدمين وأكاذيبهم وأباطيلهم التي زخرفوها، تلقاها محمد صلى الله عليه وسلم من غيره من السابقين، وهذا يعني في زعمهم أن القرآن ليس وحيا من عند الله تعالى.
وهذه الصفة الثالثة تشبه قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل 24/ 16] وقال سبحانه: {وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان 5/ 25] قيل: نزل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما.
ثم بيّن الله تعالى أسباب افترائهم على القرآن، فقال:
{كَلاّ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ} أي ارتدعوا وانزجروا عن هذه الأقوال، فليس الأمر كما زعمتم أيها المعتدون الآثمون، ولا كما قلتم: إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله، ووحيه، وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما السبب هو كثرة الذنوب والخطايا التي حجبت قلوبكم عن الإيمان بالقرآن، والتي كوّنت عليها الرّين الذي منع نفاذ الحق والخير والنور إليها، فأعماها عن رؤية الحقيقة. والرين: يعتري قلوب الكافرين، فقوله:{رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ} أي غطى عليها.
أخرج ابن جرير وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا، نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه في القرآن» . قال الحسن البصري عن الران: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب، ويسودّ من الذنوب.
والطبع: أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين.
ثم أبان الله تعالى أنهم مطرودون من أي رحمة أو تكريم، فقال:
{كَلاّ، إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ} أي ليس