الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بمعنى الاستقبال، كما أن {ما} لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال، أي لا أعبد في المستقبل ما تعبدون من الأصنام في الحال.
{وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} أي ولا تعبدون في المستقبل ما أعبد في الحال، وهو الله تعالى وحده. {وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ} أي ولست أنا عابد في الحال أو في الماضي ما عبدتم فيما سلف.
{وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} أي وما عبدتم في وقت ما أنا عابده، ويجوز أن تكون الجملتان تأكيدين على طريقة أبلغ. والأدق أن يقال: إن الآيتين (3، 2) تدلان على الاختلاف في المعبود الذي يعبد، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله، وهم يعبدون الأصنام والأوثان. والآيتان (5، 4) تدلان على الاختلاف في العبادة نفسها، فعبادة النبي عليه الصلاة والسلام عبادة خالصة لله لا يشوبها شرك ولا غفلة عن المعبود، وعبادتهم كلها شرك وإشراك، فلا يلتقيان.
{لَكُمْ دِينُكُمْ} وهو الشرك الذي أنتم عليه. {وَلِيَ دِينِ} وهو التوحيد أو الإسلام الذي أنا عليه، لا أرفضه، قال البيضاوي: فليس فيه إذن في الكفر، ولا منع عن الجهاد، ليكون منسوخا بآية القتال. وقال الزمخشري: والمعنى أني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا مني، ولم تتبعوني فدعوني كفافا، ولا تدعوني إلى الشرك.
التفسير والبيان:
هذه سورة البراءة من عمل المشركين، وهي آمرة بالإخلاص في العبادة، فقال تعالى:
{قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ} أي قل أيها النبي لكفار قريش: يا أيها الكافرون، لا أعبد على الإطلاق ما تعبدون من الأصنام والأوثان، فلست أعبد آلهتكم بأية حال. والآية تشمل كل كافر على وجه الأرض. وفائدة كلمة {قُلْ}: أنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالرفق واللين في جميع الأمور، ومخاطبة الناس بالوجه الأحسن، فلما كان الخطاب هنا غليظا أراد الله رفع الحرج عنه وبيان أنه مأمور بهذا الكلام، لا أنه ذكره من عند نفسه.
{وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} أي ولستم أنتم ما دمتم على شرككم وكفركم عابدين الله الذي أعبد، فهو الله وحده لا شريك له.
وهاتان الآيتان (3، 2) تدلان على الاختلاف في المعبود، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله وحده، وهم يعبدون الأصنام والأوثان أو الأنداد والشفعاء، أو أن المعنى دفعا للتكرار كما ذكر الزمخشري: لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في الحال، وعلامته {لا} التي هي للاستقبال، بدليل أن (لن) للاستقبال على سبيل التوكيد أو التأبيد، وأصله في رأي الخليل: لا أن. وما: للحال
(1)
، وخلاصة المعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي. {وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} أي ولا أعبد عبادتكم، أي لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأنتم لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم، فعبادة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه خالصة لله لا شرك فيها ولا غفلة عن المعبود، وهم يعبدون الله بما شرعه، ولهذا كانت كلمة الإسلام:«لا إله إلا الله، محمد رسول الله» أي لا معبود إلا الله، ولا طريق إليه في العبادة إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن الله بها، فكلها شرك وإشراك، ووسائلها من صنع الهوى والشيطان.
فالآيتان (5، 4) تدلان على الاختلاف في العبادة نفسها. ويرى بعضهم كالزمخشري: وما كنت قط في الحال أو في الماضي عابدا ما عبدتم، يعني لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى مني في الإسلام؟! وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.
وقيل: في الآيات تكرار، والغرض التأكيد، لقطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم.
(1)
قد فهم بعضهم خطا ما أراده الزمخشري هنا وفي الآيتين بعدهما. فقلب الوضع، وجعل الاستقبال محل الحال وبالعكس.
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أي لكم شرككم أو كفركم، ولي ديني وهو التوحيد والإخلاص أو الإسلام، فدينكم الذي هو الإشراك، لكم لا يتجاوزكم إليّ، وديني الذي هو التوحيد مقصور علي لا يتجاوزني، فيحصل لكم. وقيل: الدين:
الجزاء، والمضاف محذوف، أي لكم جزاء دينكم، ولي جزاء ديني. وقيل:
الدين: العبادة.
وليست السورة منسوخة بآية القتال، والمحققون على أنه لا نسخ، بل المراد التهديد، كقوله تعالى:{اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ} [فصلت 40/ 41].
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ} [يونس 41/ 10] وقوله:
{لَنا أَعْمالُنا، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ} [القصص 55/ 28]. والمراد بذلك كله التهديد، لا الرضا بدين الآخرين.
وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} على أن الكفر كله ملة واحدة، فورّث اليهود من النصارى وبالعكس إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به؛ لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان.
وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس،
لحديث أحمد وأبي داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» .
قال الرازي: جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} عند المتاركة، وذلك غير جائز؛ لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل ليتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه
(1)
.
(1)
تفسير الرازي: 148/ 32