الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: تعس الشيطان، تعاظم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: باسم الله، تصاغر حتى يصير مثل الذباب». وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان وغلب، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب.
ثم أبان موضع وسوسته، فقال:
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ} أي الذي يلقي خواطر السوء والشرّ في القلوب، وإنما ذكر الصدور لأنها تحتوي على القلوب، والخواطر محلها القلب، كما هو المعهود في كلام العرب.
ثم بيّن الله تعالى أن الذي يوسوس نوعان: جني وإنسي، فقال:
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} أي أن ذلك الموسوس إما شيطان الجن، فيوسوس في صدور الناس، كما تقدم، وإما شيطان الإنس، ووسوسته في صدور الناس:
أنه يري نفسه كالناصح المشفق، فيوقع في الصدر كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة، فيجعله فريسة وسوسة الشيطان الجني. وهذا يدل على أن الوسواس قد يكون من الجن وقد يكون من الناس، كما جاء في قوله تعالى:{وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام 112/ 6] أي ليست العداوة قهرية جبرية، وإنما بما أودع الله فيهم من قدرة الاختيار، فمنهم من يختار الإصغاء لوسوسة الشياطين، ومنهم من يحذر عداوتهم ووسوستهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
علّمنا الله تعالى في هذه السورة رحمة بنا كيفية الاستعاذة من شياطين الإنس والجن، وعرفنا أنه بصفاته الثلاث: الربوبية، والملك، والألوهية، يحمي
المستعيذ من شرور الشيطان وأضراره في الدين والدنيا والآخرة. ومعنى الربوبية يدل على مزيد العناية وحرص المربي.
وإنما ذكر أنه {بِرَبِّ النّاسِ} وإن كان ربّا لجميع الخلق، لأمرين:
أحدهما-لأن الناس معظّمون، فأعلم بذكرهم أنه ربّ لهم، وإن عظموا.
الثاني-لأنه أمر بالاستعاذة من شرّ الناس؛ فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم
(1)
. ثم ذكر صفتي الملك والألوهية ليبين للناس أنه ملكهم الحقيقي، وإن كان لهم ملوك، وأنه إلههم ومعبودهم، لا معبود لهم سواه، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به، ويلجأ إليه، دون الملوك والعظماء.
أوضحت السورة أن الموسوس إما شيطان الجن، وإما شيطان الإنس. قال الحسن: هما شيطانان؛ أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجنّ شياطين، وإن من الإنس شياطين، فتعوّذ بالله من شياطين الإنس والجن.
ويلاحظ أن المستعاذ به في سورة (الفلق) مذكور بصفة واحدة وهي أنه «ربّ الفلق» ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات، وهي «الغاسق» و {النَّفّاثاتِ} و «الحاسد». وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث: وهي الرّب والملك والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة، وهي الوسوسة، وسبب التفرقة: أن المطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن، والمطلوب في هذه السورة سلامة الدين، ومضرة الدين، وإن قلّب، أعظم من مضارّ الدنيا وإن عظمت
(2)
.
(1)
تفسير القرطبي: 260/ 20
(2)
تفسير الرازي: 199/ 32
وبعد، فقد سجدت شكرا لله تبارك وتعالى على ما أولاني وأسبغ علي من كمال وفيض النعمة وتمام المنة، بانتهاء هذا التفسير الشامل للمأثور والمعقول، والجامع لأنواع البيان وأحكام القرآن، وهو تفسير العصر، وذلك في تمام الساعة الثامنة من صبيحة يوم الاثنين المبارك الواقع 13 من ذي القعدة 1408 هـ، الموافق 1988/ 6/27 م، وكان العمر حينذاك 56 عاما. وقد تفرغت لهذه المهمة خلال سنوات طوال، هاجرت فيها إلى دولة الإمارات-العين، تاركا الأهل والولد، مستغرقا في عظمة كلام ربّي عز وجل، فازددت إيمانا على إيمان.
وكان أول مؤلف لي في بلدتي «دير عطية» من نواحي دمشق الفيحاء، التي ولدت فيها سنة 1932 م، وهو آثار الحرب في عام 1962 م، ثم تابعت التأليف والبحث وكتبت أغلب مؤلفاتي وبحوثي التي أربت على الثلاثين في رياض دمشق والعين، فاللهم لك الحمد والشكر، اجعل كل حرف من كتابك وتفسيره وجميع ما صنفت خالصا لوجهك الكريم، وحقق به النفع والخير، وأعتق به من نارك في الآخرة كل جزء من جسمي وروحي، وشعري وبشري، وعظمي ولحمي، وسمعي وبصري، ومخي ودمي، وأدخلني الجنة بستر وسلام.
سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا لطيفا فوق كل لطيف الطف بي في أموري كلها كما أحب، ورضني في دنياي وآخرتي، واغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات.