الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَصْلَى النّارَ الْكُبْرى} الذي يدخل ويذوق حر نار الآخرة، و {النّارَ الْكُبْرى} أسفل دركات الجحيم والصغرى: نار الدنيا. {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة هنيئة تنفعه ويسعد.
{قَدْ أَفْلَحَ} فاز ونجا. {تَزَكّى} تطهر من الكفر والمعصية بالإيمان والتقوى. {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} بقلبه ولسانه، أو كبر تكبيرة الإحرام. {فَصَلّى} صلاته المفروضة. {تُؤْثِرُونَ} تفضلون الدنيا على الآخرة. {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى} الآخرة المشتملة على الجنة خير من الدنيا وأدوم لا ينقطع نعيمها. {إِنَّ هذا} فلاح من تزكى وكون الآخرة خيرا وأبقى. {لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى} المنزلة قبل القرآن. {صُحُفِ إِبْراهِيمَ} وهي عشر صحف. {وَمُوسى} وهي أيضا عشر صحف غير التوراة.
المناسبة:
بعد التبشير بالبشارتين السابقتين: وهما حفظ القرآن وعدم نسيانه، والتيسير والتوفيق للشريعة السهلة السمحة، ولأعمال الخير، أمر الله نبيه بتذكير الخلق بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ودعوتهم إلى الحق، وبيّن من ينتفع بالذكرى وهو من يخاف الله، ومن يعرض عنها وهو من يعصي الله، ويكون في قعر جهنم.
وبعد وعيد المعرضين عن العظة بالقرآن، ذكر الله تعالى وعد من طهر نفسه من الكفر والشرك والرذائل، وندّد بمن يؤثر الدنيا على الآخرة، مع أن الخير في تفضيل الآخرة على الدنيا، وأخبر بأن أصول الدعوات الدينية واحدة، فما في القرآن من عظات هو ما في صحف إبراهيم وموسى.
التفسير والبيان:
{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى} أي عظ يا محمد الناس بالقرآن، وأرشدهم إلى سبل الخير، واهدهم إلى شرائع الدين، وذكّر حيث تنفع الذكرى، والناس نوعان: فريق تنفعه الموعظة، وفريق لا تنفعه، وإنما الذي
ينتفع ويتعظ بما تبلّغه يا محمد من كان يخاف الله تعالى بقلبه، ويعلم أنه ملاقيه.
وأما من أصر على الكفار والعناد، وتمادى في الجحود والإنكار، فلا فائدة في تذكيره.
قال ابن كثير: ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله
(1)
، أخرج مسلّم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» . وروى الديلمي في الفردوس عن علي، والبخاري موقوفا قوله:«حدّثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذّب الله ورسوله» . وقال عيسى عليه السلام: «لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، وكن كالطبيب يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع» .
وقوله: {سَيَذَّكَّرُ.} . إيماء إلى أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم صار من الوضوح بحيث لا يحتاج إلا إلى التذكير فحسب. والخلاصة: أن التذكير مشروط بالانتفاع.
وهناك اتجاه آخر في تفسير الآية، وهو أن التذكير مطلوب، وإن لم ينفع، ولا يكون التعليق بالشرط في قوله:{إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى} مرادا، وإنما هو لتصوير وبيان الواقع، مثل آيات كثيرة أخرى، منها قوله تعالى:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور 33/ 24]. قال الرازي: إن الناس في أمر المعاد ثلاثة أقسام: القاطع بصحته، والمتردد فيه، والجاحد له، والفريقان الأولان ينتفعان بالتذكير والتخويف.
وكثير من المعاندين إنما يجحدون باللسان فقط، فتبين أن أكثر الخلق ينتفعون بالوعظ، والمعرض نادر، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر
(1)
تفسير ابن كثير: 500/ 4
كثير، فلهذا وجب تعميم التذكير، وإن كان لا ينتفع بالتذكير إلا البعض الذين علم الله انتفاعهم به، ونحن لا نعلمهم، فبعد أن أمر الله نبيه بالتذكير، بيّن في قوله:{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى} الذي تنفعه الذكرى من هو
(1)
.
ثم أوضح الله تعالى من الناحية الواقعية عدم جدوى التذكير بالنسبة للمعاندين، فقال:{وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها الأشقى من الكفار، لعناده وإصراره على الكفر بالله، وانهماكه في معاصيه.
لذا فإنه يقاسي حر نار جهنم ويدخلها ويذوق وبالها، فهي النار العظيمة، ونار الدنيا هي النار الصغرى، أو أن النار الكبرى: دركات جهنم، كما قال تعالى:{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} [النساء 145/ 4].
والذي يصلى النار الكبرى يخلد في عذابها، فلا يموت فيها، فيستريح مما هو فيه من العذاب، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة ينتفع أو يسعد بها، كما قال تعالى:
{لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها} [فاطر 36/ 35].
وسبب تخصيص الكافر بالذكر: أن الفاسق لم يتجنب التذكير بالكلية، فيكون القرآن ساكتا عن الشقي الذي هو أهل الفسق.
وبعد وعيد الأشقياء الذين أعرضوا عن ذكرى القرآن، ذكر وعد السعداء الذين يعنون بتزكية نفوسهم وتطهيرهم من الشرك والتقليد في العبادة ودنس الرذائل، فقال تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى} أي قد فاز ونجا من العذاب من تطهّر من الشرك، فآمن بالله ووحّده وعمل بشرائعه، وتعهد نفسه بالتزكية
(1)
التفسير الكبير للرازي: 144/ 31 - 145، غرائب القرآن: 77/ 30
والتهذيب والتطهير من الرذائل والمفاسد والأخلاق الوضيعة، وتابع ما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وذكر بلسانه اسم ربه بالتوحيد والإخلاص، وتذكر ربه العظيم في قلبه، فأقام الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها، ابتغاء رضوان الله، وطاعة لأمر الله، وامتثالا لشرع الله، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ، وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال 2/ 8].
وروى أبو بكر البزار عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى.} . قال: «من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله» .
وفي قوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى} قال: «هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها» .
ثم وبّخ المؤثرين الدنيا، المهملين أمر الآخرة، فقال:
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى} أي لا تفعلون ما أمرتم به سابقا، بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا، والآخرة ونعيمها أفضل وأدوم من الدنيا، وثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى، فإن الدنيا دار فانية، والآخرة شريفة باقية، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد؟!!
أخرج الإمام أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له» .
وأخرج أحمد أيضا عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى» .
ثم أبان الله تعالى وحدة الشرائع في أصولها وآدابها العامة، فقال: {إِنَّ هذا
لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى} أي إن كل ما ذكر من فلاح من تزكى، وما بعده من تذكر اسم الله، وإيثار الناس للدنيا، ثابت في صحف إبراهيم العشر؛ وكذا صحف موسى العشر غير التوراة، فقد تتابعت كتب الله عز وجل أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا.
والمراد أن ذلك مذكور بالمعنى لا باللفظ في صحف جميع الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى، فمعنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف، فهو في الأولى وفي آخر الشرائع، وتقدير الآية: إن هذا لفي الصحف الأولى التي منها صحف إبراهيم وموسى. وإنما خصت هذه الصحف بالذكر لشهرتها بين العرب. ونظير الآية قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء 196/ 26].
أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر رضي الله عنه:
وجاء في صحف إبراهيم: «ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه، عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه» .
روى الآجرّي وغيره من حديث أبي ذرّ المتقدم قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت أمثالا كلّها: أيها الملك المتسلّط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم، فإني لا أردّها ولو كانت من فم كافر.
وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، يفكر فيها في صنع الله عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.