الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أهوال يوم القيامة وأماراتها بقوله:
{إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ} أي إذا تشققت السماء وتصدعت مؤذنة بخراب العالم، وانشقاقها من علامات القيامة، وأطاعت ربها وانقادت له فيما أمر، وحق لها أن تطيع أمره وتنقاد وتسمع؛ لأنه العظيم القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء، وخضع له كل شيء.
{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ} أي وإذا الأرض بسطت وسوّيت ووسّعت بزوال جبالها وآكامها. ونسفها حتى صارت قاعا صفصفا.
ولفظت وأخرجت ما فيها من الأموات والكنوز، وطرحتهم إلى ظهرها، وخلت خلوا تاما عما فيها، وتخلت إلى الله وتبرأت من كل من فيها، ومن أعمالهم.
ونظير الآية: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ، فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه 105/ 20 - 107].
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ} أي استمعت وأطاعت أوامر ربها، وحق لها أن تتخلى وتستمع لما يريد ربها أن يأمرها به؛ لأنها واقعة في قبضة القدرة الإلهية.
وجواب {إِذَا} محذوف لإرادة التهويل على الناس، والتقدير: إذا حدث ما حدث، رأيتم أعمالكم من خير أو شر.
{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} أي يا أيها الإنسان، والمراد به الجنس الذي يشمل المؤمن والكافر، إنك عامل في هذه الحياة ومجاهد ومجدّ في عملك، ومصير سعيك وعملك إلى ربك أو إلى لقائه بالموت، وإنك ستلقى ما عملت من خير أو شر، أو سوف تلقى ربك بعملك. والكدح: جهد النفس في العمل حتى تأثرت.
روى أبو داود الطيالسي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«قال جبريل: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت، فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» .
فقوله: {فَمُلاقِيهِ} يعود الضمير إلى العمل من خير أو شر، وقيل: يعود الضمير على قوله {رَبِّكَ} أي فملاق ربك، ومعناه: فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك.
ثم ذكر أحوال الناس وانقسامهم إلى فريقين يوم القيامة، فقال: الفريق الأول-المؤمنون: {فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه وهم المؤمنون، فإنه يحاسب حسابا سهلا، بأن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله ويتجاوز عنها، من غير أن يناقشه الحساب، فذلك هو الحساب اليسير.
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذّب، قالت:
فقلت: أفليس الله تعالى قال: {فَسَوْفَ يُحاسَبُ}
…
{يَسِيراً} ؟ قال: ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، ومن نوقش الحساب يوم القيامة عذّب».
وهذا الذي يعطى كتابه بيمينه ويحاسب حسابا يسيرا بالعرض يرجع إلى أهله وعشيرته في الجنة مغتبطا فرحا مسرورا بما أعطاه الله عز وجل وما أوتي من الخير والكرامة.
روى الطبراني عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنكم تعملون أعمالا لا تعرف، ويوشك الغائب أن يثوب إلى أهله، فمسرور أو مكظوم» .
ونظير الآية قوله: {فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَيَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ} [الحاقة 19/ 69 - 21].
الفريق الثاني-الكافرون: {وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً، وَيَصْلى سَعِيراً} أي وأما من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره؛ حيث تثنى يده خلفه، ويعطى كتابه بها، وتكون يمينه مغلولة إلى عنقه، فإذا قرأ كتابه، نادى يا ثبوراه، أي بالهلاك والخسار، ثم يدخل جهنم، ويصلى حرّ نارها وشدتها.
ونظير الآية قوله: {وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ، فَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ} [الحاقة 25/ 69 - 29].
ثم ذكر الله تعالى سببين لعذابه فقال:
1 -
{إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي إنه كان في الدنيا فرحا لا يفكر في العواقب، ولا يخاف مما أمامه، وإنما يتبع هواه، ويركب شهواته، بطرا أشرا لعدم خطور الآخرة بباله، فأعقبه ذلك الفرح اليسير حزنا طويلا.
2 -
{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي إن سبب ذلك السرور والبطر ظنه بأنه لا يرجع إلى الله، ولا يبعث للحساب والعقاب، ولا يعاد بعد الموت.
ثم رد الله عليه ظنه قائلا:
{بَلى، إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً} أي بلى إنه سيحور ويرجع إلى ربه، وسيعيده الله كما بدأه، ويجازيه على أعماله خيرها وشرها، فإن الله ربه كان به وبأعماله عالما خبيرا، لا يخفى عليه منها شيء أو خافية.
وفي هذا إشارة إلى أنه لا بد من دار للجزاء غير دار التكليف؛ لأن ذلك مقتضى العلم التام والقدرة والحكمة.