الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب النزول:
تقدم سبب نزول السورة عن ابن أبي حاتم.
وأخرج ابن جرير عن علي قال: كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ} إلى {ثُمَّ كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} في عذاب القبر.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن الشّخّير قال:
انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:{أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ} يقول ابن آدم:
مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت».
وقال مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركه للناس» .
التفسير والبيان:
{أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ} أي شغلكم التفاخر والتباهي بالأموال والأولاد والأعوان، والاعتناء بكثرتها وتحصيلها، شغلكم عن طاعة الله والعمل للآخرة، حتى أدرككم الموت، وأنتم على تلك الحال.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله» .
وأخرج أحمد وصاحبا الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يهرم ابن آدم، ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل» .
أما زيارة القبور، فمباحة بالآداب الشرعية، بأن يبدأ الزائر السلام على صاحب القبر عند رأسه، ثم يتجه إلى القبلة ويدعو الله عز وجل بالرحمة والمغفرة للميت ولنفسه وللمسلمين،
أخرج ابن ماجه عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور، فإنها تزهّد في الدنيا، وتذكّر الآخرة» وهو صحيح،
وأخرج الحاكم في صحيحة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها ترقّ القلب، وتدمع العين، وتذكّر الآخرة، ولا تقولوا هجرا» . وهذا دليل على أنها تمنع إذا كانت مصحوبة بمنكرات، كالاختلاط والفتن والنواح.
{كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي ردعا وزجرا لكم عن هذا التكاثر المقيت الذي يؤدي إلى التقاطع والتدابر والأحقاد والضغائن، وإهمال العمل للآخرة، وخير الأمة، وتصحيح السلوك والأخلاق. وستعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة. قال الزمخشري:{كَلاّ} ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه، ولا يهتم بدينه.
والجملة الثانية كررت للتأكيد والتغليظ والوعيد والزجر.
{كَلاّ، لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أي ارتدعوا عن هذا اللهو بالدنيا، فإنكم لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علما يقينا، لانشغلتم عن التكاثر والتفاخر، ولبادرتم إلى صالح الأعمال، ولما ألهاكم التباهي عن أمر الآخرة العظيم والإعداد لها. وجواب {لَوْ} محذوف، أي لو علمتم لما ألهاكم.
وهذا زيادة في الزجر واللوم عن الانهماك في الدنيا، والاغترار بمظاهر الحياة الفارغة الزائلة. وليس الكلام مجرد وعظ، وإنما الخطر الداهم يقتضي عمق التأمل والتفكر في مستقبل الآخرة، وذلك لا يتوافر عادة بغير إيمان قوي، وقلب واع سليم. وتكرار لفظ {كَلاّ} المفيدة للزجر، للدلالة على استحقاق ضرر آخر
غير العذاب. وقال الحسن: {كَلاّ} بمعنى حقا كأنه قيل: حقا لو تعلمون علم اليقين.
ثم فسر الوعيد فقال:
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} أي لتشاهدن النار في الآخرة، والمراد ذوق عذابها وهذا جواب قسم محذوف. وهو توعد بحال رؤية النار التي إذا زفرت زفرة واحدة، خرّ كل ملك مقرّب، ونبي مرسل، على ركبتيه من المهابة، والعظمة، ومعاينة الأهوال الجسام.
ثم أكد ذلك بقوله:
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ} أي ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والرؤية بأعينكم، فإياكم الوقوع فيما يؤدي إلى النار من اقتراف المعاصي والسيئات، وارتكاب الموبقات والمنكرات.
ثم أكد السؤال عن الأعمال للتحذير فقال:
{ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أي إنكم سوف تسألون عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة، وتسألون عن أنواع نعيم الدنيا من أمن وصحة وفراغ ومأكول ومشروب ومسكن وغير ذلك من النعم، قال الزمخشري:{عَنِ النَّعِيمِ} عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه. وقال الرازي: والأظهر أن الذي يسأل عن النعيم هم الكفار، وفي قول آخر: أنه عام في حق المؤمن والكافر، واحتجوا بأحاديث منها:
روي عن عمر أنه قال: «أي نعيم نسأل عنه يا رسول الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد، والماء البارد في اليوم الحار» .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن محمود بن لبيد قال: «لما نزلت {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ} فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قالوا: يا رسول الله، أي نعيم نسأل عنه؟ وإنما هما الأسوان: الماء والتمر، وسيوفنا على رقابنا، والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟ قال: أما إن ذلك سيكون» .
وثبت في صحيح البخاري وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس:
الصحة والفراغ». أي أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه، فهو مغبون.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي برزة: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به» .
وأخرج البخاري في الأدب والترمذي وابن ماجه عن عبيد الله بن محصن:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» .
وأخرج ابن جرير ومسلم وأهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
«بينما أبو بكر وعمر جالسان إذ جاءهما النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أجلسكما هاهنا؟ قالا: والذي بعثك بالحق، ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع، قال: والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره، فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار
(1)
، فاستقبلتهم المرأة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ فقالت: ذهب يستعذب لنا ماء، فجاء صاحبهم يحمل قربته، فقال: مرحبا ما زار العباد شيء أفضل من نبي، زارني اليوم، فعلق قربته بكرب نخلة، وانطلق فجاءهم بعذق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا كنت اجتنيت؟ فقال: أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم، ثم أخذ الشفرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب، فذبح لهم يومئذ فأكلوا، فقال لهما
(1)
هو مالك بن التّيّهان الأنصاري، أبو الهيثم.