الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فنكص على عقبيه، فقالوا له:
مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا شديدا.
التفسير والبيان:
{اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} أي اقرأ مبتدئا باسم ربّك، أو مستعينا باسم ربّك، الذي أوجد وخلق كل شيء. وقد وصف الله لنا نفسه بأنه الخالق للتذكير بأول النعم وأعظمها. والمراد: الأمر من الله لنبيّه بأن يصير قارئا، بقدرة الله الذي خلقه وإرادته، وإن لم يكن من قبل قارئا ولا كاتبا، فمن خلق الكون قادر على أن يوجد فيه القراءة، وإن لم يتعلمها سابقا.
{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ} أوجد بني آدم من قطعة دم جامد وهي العلقة، التي هي طور من أطوار خلق الجنين، فإنه يبدأ نطفة، ثم يتحول بقدرة الله إلى علقة: وهي كأنها قطعة من الدم الجامد، ثم يكون مضغة: وهي كأنها قطعة لحم، ثم يظهر فيها بقية التخليق من عظام، فلحم، فإنسان كامل الخلقة.
ويلاحظ أنه تعالى أطلق الخلق أولا ليتناول كل المخلوقات، ثم خصّ الإنسان بالذّكر لشرفه، أو لعجيب فطرته، أو لأن الآية سيقت من أجله.
وإنما قال: باسم ربّك، ولم يقل: باسم الله كما في التسمية المعروفة:
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} لأن الربّ: من صفات الفعل، والله: من أسماء الذات، وبما أنه أمره بالعبادة، وصفات الذات لا تستوجب شيئا، وإنما يستوجب العبادة صفات الفعل، فكان ذلك أبلغ في الحثّ على الطاعة، والخلاصة: إنه لم يأت بلفظ الجلالة، لما في لفظ الرّب من معنى الذي ربّاك، ونظر في مصلحتك، وجاء الخطاب ليدل على التأنيس والاختصاص، أي ليس لك ربّ غيره.
وإنما أضاف ذاته إلى رسوله، فقال:{بِاسْمِ رَبِّكَ} للدلالة على أنه له،
تصل إليه منفعته، أما طاعة العبد فلا تحقق منفعة لله، فإذا أتى بما طلبه منه من طاعة أو توبة، أضافه إلى نفسه بوصف العبودية، فقال:{أَسْرى بِعَبْدِهِ} [/الإسراء 1/ 17].
وإنما ذكر قوله {الَّذِي خَلَقَ} بعد قوله: {رَبِّكَ} للاستدلال على أنه ربّه، وهو الذي أوجده، فصار موجودا بعد أن كان معدوما، والخلق والإيجاد تربية، وكذلك جاء بصفة الخالق، أي المنشئ للعالم، للإتيان بصفة لا يمكن للأصنام شركة فيها، فيكون ردّا على العرب التي كانت تسمي الأصنام أربابا.
{اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} أي افعل ما أمرت به من القراءة، وربّك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم من كل كريم، ومن كرمه: تمكينك من القراءة وأنت أمّي. وإنما كرر كلمة {اِقْرَأْ} للتأكيد، ولأن القراءة لا تتحقق إلا بالتكرار والإعادة. وقوله:{وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} لإزاحة المانع، وإزالة العذر الذي اعتذر به النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين طلب منه بقوله:{اِقْرَأْ} ، فقال: ما أنا بقارئ.
والأوجه: أن يراد بقوله الأول: {اِقْرَأْ} : أوجد القراءة، وبالثاني:
استعن باسم ربّك.
ثم قرن القراءة بالكتابة، فقال:
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} أي علّم الإنسان الكتابة بالقلم، فهو نعمة عظيمة من الله عز وجل، وواسطة للتفاهم بين الناس كالتعبير باللسان ولولا الكتابة لزالت العلوم، ولم يبق أثر لدين، ولم يصلح عيش، ولم يستقر نظام، فالكتابة قيد العلوم والمعارف، ووسيلة ضبط أخبار الأولين ومقالاتهم، وأداة انتقال العلوم بين الأمم والشعوب، فتبقى المعلومات، ثم يبنى عليها ويزاد إلى ما شاء الله، فتنمو
الحضارات، وتسمو الأفكار، وتحفظ الأديان، وتنشر الهداية.
وجاء في الأثر:
(1)
.
لهذا بدأت دعوة الإسلام بالترغيب في القراءة والكتابة، وبيان أنها من آيات الله في خلقه، ومن رحمته بهم، وكانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة، وهو العربي الأميّ، قرآنا يتلى، وكتابا يكتب، وأنه بذلك نقل أمته من حال الأميّة والجهل إلى أفق النور والعلم، كما قال تعالى ممتنا بذلك:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة 2/ 62].
ثم أبان عموم فضله وكثرة نعمه، فقال:
{عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} أي علّم الله الإنسان بالقلم كثيرا من الأمور ما لم يعلم بها، فلا عجب أن يعلمك الله أيها النبي القراءة، وكثيرا من العلوم، لنفع أمتك.
ورد في الأثر: «من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يكن يعلم»
(2)
.
ثم ردع الإنسان على طغيانه حال الغنى، فقال:
{كَلاّ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى} أي ارتدع وانزجر أيها الإنسان، عن كفرك بنعمة الله عليك، وتجاوزك الحدّ في العصيان، لأن رأيت نفسك مستغنيا بالمال والقوة والأعوان.
وقيل: المراد بالآية: حقا إن أمر الإنسان عجيب، يستذل ويضعف حال الفقر، ويطغى ويتجاوز الحدّ في المعاصي ويتكبّر ويتمرد حتى أحسّ بنفسه القدرة والثروة. وأكثر المفسرين على أن المراد بالإنسان هنا أبو جهل وأمثاله.
(1)
أخرجه الطبراني والحاكم عن عبد الله بن عمرو، وهو صحيح.
(2)
تفسير ابن كثير: 528/ 4