الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{لا يَتَكَلَّمُونَ} أي العباد، وهو تقرير وتوكيد لقوله:{لا يَمْلِكُونَ} قال البيضاوي: فإن هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم إلى الله، إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما يكون صوابا، كالشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه، فكيف يملكه غيرهم؟ {إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ} في الكلام. {وَقالَ صَواباً} أي وقال قولا صائبا من المؤمنين والملائكة، كأن يشفعوا لمن ارتضى. {ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} الثابت وقوعه، الكائن لا محالة، وهو يوم القيامة. {إِلى رَبِّهِ} إلى ثوابه. {مَآباً} مرجعا، أي رجع إلى الله بالإيمان والطاعة، ليسلم من العذاب فيه. {إِنّا أَنْذَرْناكُمْ} يا كفار مكة وأمثالكم، والإنذار: التحذير من المكروه قبل وقوعه. {عَذاباً قَرِيباً} عذاب يوم القيامة الآتي، وكل آت قريب. {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} حين يرى كل امرئ ما قدمه من خير أو شر، والمرء عام، يشمل الذكر والأنثى، والمؤمن والكافر. {وَيَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً} أي فلا أعذب، يقول ذلك عند ما يحشر الله البهائم للاقتصاص من بعضها لبعض، ثم تردّ ترابا، فيود الكافر حالها.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى وعيد الكفار ووعد المتقين، ختم الكلام بالإخبار عن عظمته وجلاله وشمول رحمته وعلى التخصيص يوم القيامة، وأردفه ببيان أن هذا اليوم حق لا ريب فيه، وأن الناس فيه فريقان: فريق بعيد من الله، ومصيره إلى النار، وفريق قريب من الله، وتكريمه وثوابه، ومرجعه إلى الجنة، ثم عاد إلى تهديد الكفار المعاندين وتحذيرهم من عاقبة عنادهم وكفرهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن عظمته وجلاله وشمول رحمته كل شيء، فيقول:
{رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ، لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً} أي إن الجزاء الحسن والعطاء الكافي الوافي لأهل الإيمان والطاعة هو ممن اتصف بالعظمة والجلال، ورب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، والرحمن الذي شملت رحمته كل شيء، والذي لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه، لهيبته وتعاليه، ثم أكد هذا وقرره بقوله:
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً} أي إن عظمة الله تتجلى في يوم القيامة وتظهر عيانا للخلائق، حتى إن جبريل عليه السلام وجميع الملائكة المصطفين، مع رفعة أقدارهم ودرجاتهم؛ لأنهم أعظم المخلوقات قدرا ورتبة لا يتكلمون في يوم القيامة الرهيب إلا بشرطين:
أحدهما-الإذن من الله بالشفاعة، كقوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ} [البقرة 255/ 2] وقوله سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ} [هود 105/ 11] وقوله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه 109/ 20].
والثاني-أن يقول صوابا: أي أن يقول حقا وصدقا إذا كان الإذن للشافع، وأن يكون ذلك الشخص المشفوع له ممن قال في الدنيا صوابا، أي شهد بالتوحيد بأن قال: لا إله إلا الله، إذا كان الإذن للمشفوع.
والروح: هو جبريل عليه السلام في رأي الأكثرين؛ لقوله عز وجل:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء 193/ 26 - 194]. وقال ابن عباس: هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقا. وقال ابن مسعود: إنه ملك أعظم من السموات والأرض.
وفي الآية دلالة على أن الملائكة وجبريل عليهم السلام أعظم المخلوقات قدرا ومكانة، وعلى عظمة يوم القيامة ورهبته.
ثم أخبر الله تعالى بأن يوم القيامة حق لا ريب فيه، فقال:
{ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً} أي إن ذلك اليوم الذي تقوم فيه الملائكة على تلك الصفة هو اليوم الثابت، الكائن الواقع المتحقق الذي لا ريب فيه، فمن أراد النجاة فيه، اتخذ إلى ثواب ربّه مرجعا وطريقا يهتدي
إليه، ويقرّبه منه، ويدنيه من كرامته، ويباعده عن عقابه، بالإيمان الحق والعمل الصالح.
ثم عاد الله تعالى إلى تهديد الكفار وتحذيرهم وتخويفهم من ذلك اليوم، فقال:
{إِنّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً، يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ، وَيَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً} أي إننا يا أهل مكة وأمثالكم من الكفار حذّرناكم وخوّفناكم عذابا قريب الوقوع وهو يوم القيامة؛ فإنه لتأكد وقوعه صار قريبا، ولأن كل ما هو آت قريب، كما قال تعالى:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها} [النازعات 46/ 79]. وفي هذا اليوم القريب ينظر كل امرئ ما قدّم من خير أو شرّ في حياته الأولى في الدنيا، كما جاء في قوله تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران 30/ 3].
ويقول الكافر من شدة ما يعانيه من أنواع الأهوال والعذاب، مثل أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط وأبي جهل وأبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي: ليتني كنت ترابا، فهو يتمنى إن لم يكن إنسانا يبعث، وإنما كان ترابا، ويتمنى أن يصير ترابا كالحيوانات بعد الاقتصاص من بعضها لبعض، وقد ورد معنى هذا في حديث الصور المشهور، وورد فيه آثار عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهما، كما ذكر ابن كثير، ومضمون تلك الأخبار: أن البهائم تحشر، فيقتصّ للجمّاء من القرناء، ثم تردّ ترابا، فيودّ الكافر حالها ليتخلص من العذاب.
والآيتان الأخيرتان تدلان على أن الناس يكونون يوم القيامة فريقين:
فريق المؤمنين المقربين من ثواب الله وكرامته ورضاه، وفريق الكافرين الجاحدين البعيدين من رحمة الله، الواقعين في صنوف العذاب.