الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفردات اللغوية:
{مِنْ} للبيان. {أَهْلِ الْكِتابِ} اليهود والنصارى. {الْمُشْرِكِينَ} عبدة الأوثان والأصنام. {مُنْفَكِّينَ} منتهين عن كفرهم، زائلين عما هم عليه، مفارقين له. {الْبَيِّنَةُ} الحجة الواضحة التي يتميز بها الحق من الباطل، مأخوذة من البيان: وهو الظهور، والمراد هنا: الرسول أو القرآن، فإنه مبين للحق. {صُحُفاً} جمع صحيفة: وهي ما يكتب فيه. {مُطَهَّرَةً} خالية من الباطل، مبرّأة من الضلال والزور.
{فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} في الصحف مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحق، أي إن الرسول يتلو مضمون الكتب، وهو القرآن. {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} عما كانوا عليه، بأن آمن بعضهم بالقرآن، وكفر به بعضهم. {إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} الدليل الواضح الدال على الحق، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن الجائي به معجزة له.
{وَما أُمِرُوا} في كتبهم كالتوراة والإنجيل. {إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ} أي إلا أن يعبدوه، فحذفت (أن) وزيدت اللام. {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} جاعلين الدين له وحده نقيّا من الشرك، لا يشركون به. والإخلاص: الإتيان بالعمل خالصا لله تعالى دون إشراك به. والدين: العبادة.
{حُنَفاءَ} مائلين عن الباطل والعقائد الزائغة، جمع حنيف: وهو في الأصل المائل المنحرف عن الشيء إلى غيره، والمراد هنا: المستقيمين على دين إبراهيم ودين محمد حين مجيئه. {وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} دين الملة المستقيمة.
التفسير والبيان:
أرسل الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم لجميع العالمين من الإنس والجن، ولجميع الأمم والشعوب في عصره والعصور التالية له، ولكل أهل الملل والأديان، حتى أهل الكتاب والمشركين الذين بعدوا عن الدين الصحيح، لذا قال تعالى:
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي لم يكن الذين جحدوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنكروا نبوته، من اليهود والنصارى وعبدة الأصنام والأوثان من مشركي العرب وغيرهم، منتهين عما هم عليه من الكفر، مفارقين لكفرهم الموروث، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو القرآن الكريم.
والمراد إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله، حتى يأتيهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن، فإنه بيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم، ودعاهم إلى الإيمان.
ثم أوضح المراد بالبيّنة فقال:
{رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي تلك البينة هي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين، يقرأ عليهم ما تتضمنه صحف القرآن، المطهرة من الخلط والكذب، والشبهات والكفر، والتحريف واللّبس، بل فيها الحق الصريح الذي يبين لأهل الكتاب والمشركين كل ما يشتبه عليهم من أمور الدين، وفيها الآيات والأحكام المكتوبة المستقيمة المستوية المحكمة، دون زيغ عن الحق، وإنما هي صلاح ورشاد، وهدى وحكمة، كما قال تعالى:{لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصّلت 42/ 41] وقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، قَيِّماً لِيُنْذِرَ.} . [الكهف 1/ 18 - 2].
ونظير الآية قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ} [عبس 12/ 80 - 16].
ثم أبان تفرّق الكتابيين، فقال:
{وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي لا تتأسف يا محمد على الكتابيين، فإن تفرقهم واختلافهم لم يكن لاشتباه الأمر عليهم، بل كان بعد وضوح الحق، وظهور الصواب، ومجيء الدليل المرشد إلى الدين الحق والبينة الواضحة وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالقرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته ووصفه، فلما بعث الله محمدا، تفرقوا في الدين، فآمن به بعضهم، وكفر آخرون، وكان عليهم أن يتفقوا على طريقة واحدة، من اتباع
دين الله، ومتابعة الرسول الذي جاءهم من عند الله، مصدّقا لما معهم.
ونظير الآية: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران 105/ 3]. وقد أعذر من أنذر، كما قال تعالى:{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال 42/ 8].
وجاء في الحديث المروي من طرق: «إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي»
(1)
.
ثم وبّخهم على انحرافهم عن الهدف الجوهري من الدين وهو إخلاص العبادة لله، فقال:
{وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي إنهم تفرقوا واختلفوا، مع أنهم لم يؤمروا في التوراة والإنجيل أو في القرآن الذي جاءهم من عند الله إلا بعبادة الله وحده، وتكون عبادتهم خالصة لا يشركون به شيئا، ويخلصون العبادة لله عز وجل، مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، ويفعلون الصلوات على الوجه الذي يريده الله في أوقاتها، ويعطون الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس عند حلول وقتها. وهذا الذي أمروا به يقتضي الاتحاد والاتفاق، لا الشقاق والافتراق، ولم يجيء محمد صلى الله عليه وسلم إلا بمثل ما أمر به الرسل من ذلك، ومنهجه اتباع ملة إبراهيم عليه السلام الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله كما قال:{ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً} [النحل 123/ 16].
وذلك الدين: وهو إخلاص العبادة، وترك كل ما يعبد من دونه، وأداء
(1)
تفسير ابن كثير: 537/ 4
الصلوات لله في أوقاتها، وبذل الزكاة للمحتاجين، هو دين الملة المستقيمة.
وقوله: {وَما أُمِرُوا} أي وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، أي أن المشروع في حقهم مشروع في حقنا. والأولى أن يكون المراد كما ذكر الرازي: وما أمر أهل الكتاب في القرآن أو على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلا بهذه الأشياء، لأن الآية على هذا التقدير تفيد شرعا جديدا، وحمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة أولى، ولقوله تعالى:{حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي محمد صلى الله عليه وسلم، ولأن الله تعالى ختم الآية بقوله:{وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وهو شرع محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية دالة على أن التفرق والكفر فعلهم بدليل قوله: {إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} . والمقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، أي لا يحزنك أو لا يغمّنك تفرقهم، فليس ذلك لقصور في الحجة، بل لعنادهم، وهكذا كان سلفهم تفرقوا في السبت وعبادة العجل بعد قيام البينة عليهم، فهي عادة قديمة لهم.
وقوله: {لِيَعْبُدُوا} اللام في موضع (أن) أي إلا أن يعبدوا، والعرب تجعل اللام في موضع (أن) في الأمر والإرادة كثيرا، مثل قوله تعالى:{يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء 26/ 4] وقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا} [الصف 8/ 61] وقال في الأمر: {وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ} [الأنعام 71/ 6].
وبما أن الإخلاص: عبارة عن النية الخالصة، والنية معتبرة، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به، فلا بد وأن يكون منويا. قالت الشافعية: بما أن الوضوء مأمور به في قوله تعالى: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة 6/ 5] ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منويا، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منويا. وعلى هذا لا بد في المأمورات من
النية: بأن يقصد الشخص بعمله وجه الله. أما المنهيات فإن تركها بدون نية لم يؤجر في تركها، وإن تركها ابتغاء وجه الله، كان مأجورا على تركها، وأما المباحات كالأكل والنوم، فإن فعلها بغير نية لم يؤجر، وإن فعلها بقصد وجه الله والتقوي بها على الطاعة، كان له فيها أجر.
واللام في قوله تعالى: {وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ} تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا: العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة أو إلى البعد عن عقاب النار، بل لأجل أنك عبد، وهو رب، فلو لم يكن هناك ثواب ولا عقاب البتة، ثم أمرك بالعبادة، وجبت لمحض العبودية. وفيها أيضا إشارة إلى أنه من عبد الله للثواب والعقاب، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب، والحق واسطة.
والعبادة هي التذلل، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ؛ لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام، وما أطاعوهم. والعبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحدا في ذاته وصفاته الذاتية والفعلية.
والإخلاص: هو أن يأتي بالفعل خالصا لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل. وقوله:{مُخْلِصِينَ} تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه، والمخلص: هو الذي يأتي بالحسن لحسنه، والواجب لوجوبه، فيأتي بالفعل مخلصا لربه، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر، بل قالوا: لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة عن النار مطلوبا، وإن كان لا بد من ذلك. وقالوا أيضا: من الإخلاص: ألا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير، مثل الواجب من الأضحية شاة، فإذا ذبحت اثنتين: واحدة لله، وواحدة للأمير، لم يجز؛ لأنه شرك.