الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب النزول:
نزول الآية (6):
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} : نزلت لما عيّر المشركون المسلمين بالفقر.
وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري قال: لما نزلت هذه الآية: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا أتاكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين» .
التفسير والبيان:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أي قد شرحنا لك صدرك لقبول النبوة، وتحمل أعبائها، وحفظ الوحي. قال الرازي: وقد استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك. والأولى أن يقال كما بينا: الاستفهام تقريري، يراد به إثبات الشرح.
والمراد بشرح الصدر تنويره وجعله فسيحا وسيعا رحيبا، كقوله تعالى:
{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} [الأنعام 125/ 6]
(1)
. وقال أبو حيان: شرح الصدر: تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه، وهو قول الجمهور، والأولى العموم لهذا ولغيره من مقاساة الدعاء إلى الله تعالى وحده، واحتمال المكاره من إذاية الكفار
(2)
. والأكثرون على أن الشرح أمر معنوي.
وقيل: المراد بذلك شرح صدره ليلة الإسراء، كما رواه الترمذي عن مالك بن صعصعة. قال ابن كثير: ولكن لا منافاة، فإن من جملة شرح صدره:
الذي فعل بصدره ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضا
(3)
.
(1)
تفسير ابن كثير: 524/ 4
(2)
البحر المحيط: 487/ 8
(3)
تفسير ابن كثير: المرجع السابق.
وروى أيضا حديث شرح الصدر عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبي بن كعب: أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء، لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله، ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، وقال:«لقد سألت يا أبا هريرة، إني في الصحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذ بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلي يمشيان، حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأحدهما مسّا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري، ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئا كهيئة العلقة، ثم نبذها، فطرحها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم هزّ إبهام رجلي اليمنى، فقال: أعد وأسلم، فرجعت بها أعدو رقّة على الصغير، ورحمة على الكبير» .
وفي الصحيح عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة-رجل من قومه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت بطست من ذهب، فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا» -قال قتادة: قلت: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني-قال: فاستخرج قلبي، فغسل قلبي بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانا وحكمة».
والخلاصة من حديث شق الصدر: أن جبريل عليه السلام أتى محمدا صلى الله عليه وسلم في صغره، وشق صدره، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علما وإيمانا، ووضعه في صدره.
وقد طعن بعضهم في هذه الرواية؛ لأن هذه الواقعة حدثت في حال الصغر، وذلك من المعجزات، فلا يجوز أن تتقدم نبوته، ولأن تأثير الغسل في إزالة أوساخ الأجسام، والمعاصي ليست بأجسام، فلا يكون للغسل فيها أثر، ولأنه لا يصح أن يملأ القلب علما، بل الله تعالى يخلق فيه العلوم.
وأجاب الإمام فخر الدين الرازي عن ذلك بأن هذا يسمى الإرهاص، وهو مقدمات النبوة وبشائرها، ومثله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يبعد أن يكون غسل الدم الأسود من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم علامة للقلب الذي يميل إلى المعاصي، ويحجم عن الطاعات، فإذا أزالوه كان ذلك كالعلامة على كون صاحبه معصوما، مواظبا على الطاعات، محترزا عن السيئات، وأيضا فلأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد
(1)
.
{وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أي حططنا عنك ما كنت تتصور من وجود ذنوب ومعاص أثقلت كاهلك، وأتعبت نفسك، سواء قبل النبوة أم بعدها مما تفعله خلاف الأولى، وهو لا يتفق مع سمو قدرك، ورفعة منزلتك، وعلو شأنك، كالإذن لبعض المنافقين بالتخلف عن الجهاد في موقعة تبوك، وقبول الفداء من أسرى بدر، والعبوس في وجه الأعمى.
وقيل: المراد حططنا عنك حمل أعباء النبوة والرسالة، فسهلناها عليك، حتى تيسرت لك.
{وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} أي جعلنا ذكرك مرفوعا عاليا في الدنيا والآخرة، بالنبوة وختم الرسالات بك، وإنزال القرآن العظيم عليك، وتكليف المؤمنين بالقول بعد «أشهد أن لا إله إلا الله»:«أشهد أن محمدا رسول الله» سواء في
(1)
تفسير الرازي: 2/ 32
الأذان أم في التشهد أم في الخطبة وغيرها، وأمرهم بالصلاة والسلام عليه، وأمر الله بطاعته، وجعل طاعته طاعة لله تعالى.
قال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة، إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
وروى ابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«أتاني جبريل، فقال: إن ربي وربك يقول: كيف رفعت ذكرك؟ قال: الله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي» .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي مسألة، وددت أني لم أسأله، قلت: قد كان قبلي أنبياء، منهم من سخّرت له الريح، ومنهم من يحيي الموتى، قال: يا محمد، ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قلت: بلى يا ربّ، قال: ألم أجدك ضالاّ فهديتك؟ قلت: بلى يا ربّ، قال:
ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أشرح لك صدرك، ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت: بلى يا رب».
وبعد التذكير بهذه النعم، ذكر الله تعالى أن ذلك جار على وفق سنته، من إيراد اليسر بعد العسر، فقال ردّا على المشركين الذين كانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر:
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} أي إن مع ذلك العسر المذكور سابقا يسرا، وإن مع الضيق فرجا، وقد أكّد تعالى ذلك في الجملة الثانية. وفي هذا بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له أنه سيبدل حاله من فقر إلى غنى، ومن ضعف إلى عزة وقوة، ومن عداوة قومه إلى محبتهم. والأظهر أن المراد باليسرين: الجنس، ليكون وعدا عاما لجميع المكلفين في كل عصر، ويشمل يسر الدنيا ويسر الآخرة، ويسر العاجل والآجل.