الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصحاب اليمين والسعادة ومآلهم إلى الجنة، وأصحاب الشمال والشقاوة ومآلهم إلى النار.
التفسير والبيان:
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ} أي ألم أمنحك أيها الإنسان الجاهل المغرور بقوتك، المرائي بعملك بإنفاق المال طلبا للشهرة والسمعة، أمنحك العينين اللتين تبصر بهما، واللسان الذي تنطق به، والشفتين اللتين تستر بهما ثغرك، وتستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالا لوجهك وفمك، والمراد أنني أنا الله الذي منحتك القدرة على البصر والنطق أو الكلام.
{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} أي ألم نبين لك ونعرفك طريق الخير والشر، فأودعنا في فطرتك السليمة أداة التمييز بينهما، وجعلنا لك من العقل والفكر ما تستطيع به إدراك محاسن الخير، ومفاسد الشر وأبعاد كل منهما. وعبّر عن هذين الطريقين بالنجدين: وهما الطريقان المرتفعان، للدلالة على صعوبتهما وعورتهما، واحتياجهما إلى مجاهدة النفس لعبورهما بشدة وسرعة.
لذا أردفه ببيان وجوب اختيار الأفضل وشكر تلك النعم، فقال تعالى:
{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ} أي فهلا نشط واخترق الموانع المانعة من طاعة الله، من تسويل النفس واتباع الهوى والشيطان، وهلا جاهد نفسه لاجتياز الطريق الصعب، وأي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ استفهام للتفخيم والتعظيم.
ثم أرشد إلى طريق اقتحامها فقال:
{فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ} أي إن اقتحام العقبة ودخولها يكون بإعتاق الرقبة من العبودية، وتخليصها من إسار الرق، أو المعاونة عليه، أو إطعام في يوم المجاعة الذي يعز
فيه الطعام اليتيم القريب: وهو الصغير الذي فقد أباه، وكان قريبا في نسبه من المطعم، أو إطعام المسكين المحتاج الذي لا شيء له، ولا قدرة على كسب المال لضعفه وعجزه، كأنه ألصق يده بالتراب، لفقد المال.
فمن حرر الرقبة أو أطعم اليتيم أو المسكين في يوم المجاعة، كان طائعا لله، نافعا عباده، فهو من أصحاب اليمين. وهذا مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان.
قال الصاوي على الجلالين: إنما قيّد الإطعام بيوم المجاعة؛ لأن إخراج المال فيه أشد على النفس. وقد يستدل بقوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ} للشافعي:
أن المسكين أسوأ حالا من الفقير، وأنه قد يكون بحيث يملك شيئا، وإلا وقع قوله:{ذا مَتْرَبَةٍ} تكرارا. وقد استدل أبو حنيفة بتقديم العتق على أنه أفضل من الصدقة، وعند بعضهم بالعكس لأن في الصدقة إنقاذ النفس من الهلاك؛ فإن الغذاء قوام البدن، وأما الفك فهو تخليص من القيد في الأغلب.
أخرج أحمد عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة، فهي فكاكه من النار» .
وأخرج أحمد أيضا عن البراء بن عازب قال:
«جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، علّمني عملا يدخلني الجنة، فقال: لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النّسمة وفكّ الرّقبة، فقال: يا رسول الله، أو ليستا بواحدة؟ قال: لا، إن عتق النسمة:
أن تنفرد بعتقها، وفكّ الرقبة: أن تعين في عتقها».
وأخرج أحمد والترمذي والنسائي عن سلمان بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان:
صدقة وصلة».
{ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ، وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أي قام
بالأفعال الخيرية السابقة بعد أن آمن بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر، فإن هذه القربات إنما تنفع بشرط الإيمان، فكان من جملة المؤمنين العاملين صالحا:
المتواصين بالصبر على أذى، وعلى الرحمة بهم، كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»
(1)
وفي الحديث الآخر: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله»
(2)
.
والصبر يكون أيضا على طاعة الله، وعن المعاصي، وعلى المصائب والبلايا.
والرحمة على عباد الله ترقق القلب، ومن كان رقيق القلب، عطف على اليتيم والمسكين، واستكثر من فعل الخير بالصدقة.
ثم ذكر الله تعالى جزاء هؤلاء مبشرا بهم، فقال:
{أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} أي أولئك المتصفون بهذه الصفات هم من أصحاب اليمين، وهم أصحاب الجنة، كما قال تعالى:{وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ؟ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة 27/ 56 - 34].
ثم ذكر أضداد هؤلاء للمقارنة والعبرة، فقال:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ، عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ} أي والذين جحدوا بآياتنا التنزيلية والآيات الكونية الدالة على قدرتنا، هم أصحاب الشمال، وعليهم نار مطبقة مغلقة، وأصحاب الشمال هم أهل النار المشؤومة كما قال تعالى:{وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ.} . [الواقعة 41/ 56 - 44].
(1)
رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه الشيخان والترمذي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.