الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي لكفور جحود نعمة الله تعالى عليه، والمراد به جنس الإنسان المتحدث عنه، وقيل: المراد به هنا: الكافر. {وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ} أي وإنه على كنوده لشاهد، يشهد على نفسه بصنعه، لظهور أثره عليه. {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} المال؛ لقوله تعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة 180/ 2]. {لَشَدِيدٌ} لبخيل، أو لشديد الحب له، فيبخل به.
{بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ} أثير وأخرج ما في القبور من الموتى، أي بعثوا. {وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ} جمع محصلا وأظهر وبيّن ما في القلوب من الكفر والإيمان، والشر والخير والعزائم والنوايا، وتخصيص ذلك؛ لأن القلوب هي الأصل. {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} لعالم، فيجازيهم على كفرهم. ويلاحظ أنه أعيد الضمير:{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ} جمعا، نظرا لمعنى الإنسان. وهذه الجملة:
دلت على مفعول يعلم، أي إنا نجازيه حينئذ. وتعلق (خبير) ب {يَوْمَئِذٍ} مع أنه تعالى خبير دائما بكل شيء؛ لأنه يوم المجازاة.
سبب النزول:
نزول الآية (1):
أخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا، ولبثت شهرا، لا يأتيه منها خبر، فنزلت:
{وَالْعادِياتِ ضَبْحاً} .
التفسير والبيان:
{وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً، فَالْمُغِيراتِ} أي قسما بالخيل التي تجري وتعدو بفرسانها المجاهدين في سبيل الله إلى العدو، ويسمع لها حينئذ صوت زفيرها الشديد وأنفاسها المتصاعدة، بسبب شدة الجري. وتخرج شرر النار بحوافرها أثناء الجري بسبب اصطكاك نعالها بالصخر أو الحجر؛ وتغير أو تهجم على العدو وقت الصباح.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} فهيجن في الصبح أو مكان معترك الخيول غبارا يملأ الجو، ثم توسطن بعدوهن جمعا من الأعداء، اجتمعوا في مكان، ففرّقنه أشتاتا.
وإنما أقسم الله تعالى بالخيل؛ لأن لها في الركض (العدو) من الخصال الحميدة ما ليس لسائر الدواب، ولأن الخيل في نواصيها الخير
(1)
إلى يوم القيامة، ولأنها وسيلة الغزو عند العرب، ولا تكاد تخلو في الأغلب من الخطور ببالهم.
والمراد إعلاء شأنها في نفوس المؤمنين، ليعنوا بتربيتها، وليتدربوا عليها من أجل الجهاد في سبيل الله، وليعتادوا على معالي الأمور، وظواهر الجد والعمل.
وفي هذا القسم ترغيب باقتناء الخيل لهذه الأغراض النبيلة، لا للسمعة والمفاخرة والرياء.
وعلى هذا فاللام في العاديات للعهد، ويحتمل وهو الظاهر كما تقدم عن أبي حيان أن تكون للجنس وليست أل فيه للعهد، ويدخل فيها خيل الجهاد والسرية دخولا أولياء.
وجواب القسم المحلوف عليه هو:
{إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي إن الإنسان كفور بطبعه للنعمة، كثير الجحد لها، وعدم الإقرار بمقتضاها الموجب لشكر الخالق المنعم، والخضوع لشرعه وأحكامه، إلا من جاهد نفسه، وعقل أمر الدنيا والآخرة، فأقبل على الطاعة والفضيلة، وأحجم عن المعصية والرذيلة.
والظاهر أن المراد بالإنسان هو الجنس، والأكثرون على أن الإنسان هو الكافر؛ لقوله بعد ذلك:{أَفَلا يَعْلَمُ} . لكنهم قالوا أيضا: ويحتمل أن يراد أن جنس الإنس مفطور على ذلك إلا من عصمه الله بلطفه وتوفيقه، وقوله:
{أَفَلا يَعْلَمُ} يجوز أن يكون توبيخا على أنه لا يعمل بعلمه.
{وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ} أي وإن الإنسان على كونه كنودا جحودا لشهيد
(1)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة.
يشهد على نفسه بالجحد والكفران، أي بلسان حاله، وظهور أثر ذلك عليه في أقواله وأفعاله بعصيان ربه، كما قال تعالى:{ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة 17/ 9].
وقال قتادة وسفيان الثوري: وإن الله على ذلك لشهيد.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي وإن الإنسان بسبب حبه للمال لبخيل به، أو أن حبه للمال قوي، فتراه مجدّا في طلبه وتحصيله، متهالكا عليه. فصار هناك رأيان في المعنى: أحدهما-وإنه لشديد المحبة للمال، والثاني-وإنه لحريص بخيل بسبب محبة المال، قال ابن كثير: وكلاهما صحيح.
ثم هدد الإنسان وتوعده إذا ظل بهذه الصفات، فقال:
{أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} أي أفلا يدري الجاحد إذا أخرج أو نثر ما في القبور من الأموات، وأبرز وأظهر ما يسرّ الناس في نفوسهم من النوايا والعزائم، والخير والشر، إن رب هؤلاء المبعوثين لخبير بهم، مطلع على جميع أحوالهم، لا تخفى عليه منهم خافية في ذلك اليوم وفي غيره، ومجازيهم في ذلك اليوم على جميع أعمالهم أوفر الجزاء، ولا يظلمون مثقال ذرة. فإذا علموا ذلك ووعوه، فعليهم ألا يشغلهم حب المال عن شكر ربهم وعبادته والعمل للآخرة.
وخص أعمال القلوب بالذكر؛ لأن أعمال الأعضاء الأخرى تابعة لأعمال القلب؛ فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب، لما حصلت أفعال الجوارح.
وأعاد الضمير في قوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ} بصيغة الجمع؛ لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر 2/ 103] ثم قال: