الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: متى تقوم الساعة؟ استهزاء منهم، فأنزل الله:{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها} إلى آخر السورة.
وأخرج الطبراني وابن جرير عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها} . وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة مثله
(1)
.
المناسبة:
بعد بيان أدلة القدرة الإلهية على البعث والحشر والنشر، من خلق السماء والأرض، وإثبات إمكان الحشر عقلا، أخبر الله تعالى بعد ذلك عن وقوعه فعلا، وما يصحبه من أهوال، وما يترتب عليه من انقسام الناس إلى فريقين:
فريق في الجنة وفريق في السعير.
وبعد بيان البرهان العقلي على إمكان القيامة، والإخبار عن وقوعها، وذكر أحوالها العامة وأحوال الأشقياء والسعداء فيها، أجاب الله تعالى عن تساؤل المشركين استهزاء وعنادا عن وقت حدوثها، وأوضح أن علمها مفوض إلى الله تعالى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث للإنذار فقط، وأن ما أنكروه سيرونه، حتى كأنهم أبدا فيه، وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار، ثم مضت.
التفسير والبيان:
{فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى} أي إذا حان وقت مجيئ الداهية العظمى التي تطم على سائر الطامات، وهي يوم القيامة أو النفخة الثانية التي يكون معها البعث أو تسليم أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وينسى الإنسان كل شيء قبلها في
(1)
أسباب النزول للسيوطي بهامش تفسير الجلالين.
جنبها، فصل الله تعالى بين الخلائق، فمنهم شقي وسعيد، فجواب (إذا) محذوف وهو: فصل الله..
ولذلك اليوم صفتان: إنه حين يتذكر الإنسان جميع ما عمله من خير أو شر؛ لأنه يشاهده مدونا في صحائف عمله، كما قال تعالى:{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنّى لَهُ الذِّكْرى} [الفجر 23/ 89] وقال سبحانه: {أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة 6/ 58]. وفيه تظهر نار جهنم المحرقة إظهارا لا يخفى على أحد.
سواء أكان مؤمنا أم كافرا، كما قال تعالى:{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ} [الشعراء 91/ 26]. قال مقاتل: «يكشف عنها الغطاء، فينظر إليها الخلق» فأما المؤمن: فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها، وأما الكافر: فيزداد غما إلى غمه، وحسرة إلى حسرته.
ثم فصّل الله تعالى ما يحكم به بين الخلائق، فقال:
{فَأَمّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى}
(1)
أي فأما من تكبر وتمرد، وتجاوز الحد في الكفر والمعاصي، وقدّم الحياة الدنيا على أمر الدين والآخرة، ولم يستعد لها، ولا عمل عملها، فالنار المحرقة هي مأواه ومثواه ومستقره؛ لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. قيل: نزلت الآية في النضر وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة.
{وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى} أي وأما من خاف القيام بين يدي الله عز وجل وخاف حكم الله فيه يوم القيامة، وأدرك عظمة الله وجلاله، ونهى نفسه عن هواها، وزجرها عن المعاصي والمحارم التي تشتهيها، وردها إلى طاعة مولاها، فالجنة مكانه الذي يأوي
(1)
اللام: للعهد الذهني، أي مأواه اللائق به، ولهذا استغنى عن العائد، ولا حاجة إلى تكلف أن الألف واللام بدل من الإضافة.
إليه، ومستقره ومقامه، لا غيرها. والآية نزلت في مصعب بن عمير وأخيه عمار بن عمير، وهي عامة في كل مؤمن خاف الله، ولم يتبع هواه.
وهذان الوصفان مضادان للوصفين اللذين وصف الله بهما أهل النار، فقوله:{وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ} ضد {فَأَمّا مَنْ طَغى} وقوله:
{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} ضد قوله: {وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا} .
والخوف من الله لا بد وأن يكون مسبوقا بالعلم بالله، على ما قال الله:
{إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فاطر 28/ 35]. ولما كان الخوف من الله هو السبب المعين لدفع الهوى، لذا قدمه على قوله:{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى}
(1)
.
ثم ذكر الله تعالى تساؤل المشركين على سبيل الاستهزاء عن ميعاد القيامة، فقال:
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها} أي يسألك أيها النبي المشركون المكذّبون بالبعث عن وقت إرساء القيامة وميعاد وقوعها، متى يقيمها الله ويوجدها، أو ما منتهاها ومستقرها كرسوّ السفينة؟ وذلك حين كانوا يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يذكر القيامة بأوصافها الهائلة. مثل الطامة والصاخة والازفة والحاقة والقارعة، فقالوا على سبيل الاستهزاء:{أَيّانَ مُرْساها} أي زمان إرسائها.
عن عائشة رضي الله عنها كما تقدم-: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها، حتى نزلت، فلما نزلت هذه الآية انتهى. وقال ابن عباس:
سأل مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تكون الساعة، استهزاء؟ فانزل الله عز وجل الآية.
(1)
تفسير الرازي: 51/ 31
{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها} أي: في أي شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ أو في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها، أي لست من ذلك في شيء
(1)
. وهذا تعجب من كثرة ذكره لها، كأنه قيل: في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها، حرصا على جوابهم. والمعنى ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق، بل مردها ومرجعها ومنتهى علمها إلى الله عز وجل، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين، ولا يوجد علمها عند غيره، فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك بيان وقت قيامها؟ وهم يسألونك عنها، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.
ونظير الآية: {ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ} [الأعراف 187/ 7] وقوله: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ} [لقمان 34/ 31]. ولهذا
لما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة قال فيما أخرجه مسلم عن عمر: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؟» .
{إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها} أي إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه، وما أنت إلا مخوّف لمن يخشى قيام الساعة، فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده، اتّبعك فأفلح ونجا، ومن كذب بالساعة وخالفك، خسر وخاب، فدع علم ما لم تكلف به، واعمل بما أمرت به من إنذار. وخص الإنذار بأهل الخشية؛ لأنهم المنتفعون بذلك.
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها} أي إن هذا اليوم الذي يسألون عنه واقع حتما، وكأنهم فيه، فإنهم إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر، ورأوا الساعة (القيامة) استقصروا مدة الحياة الدنيا، ورأوا كأنها ساعة من نهار، أو عشية من يوم أو ضحى من يوم. والمراد تقليل مدة الدنيا في نفوسهم إذا رأوا
(1)
البحر المحيط: 424/ 8