الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{إِذا مَا ابْتَلاهُ} بالفقر والتقتير {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} ضيّقه. {أَهانَنِ} أذلني وبادرني بالإهانة، وهذا لقصور نظره وسوء تفكيره، فإن التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين، والتوسعة قد تؤدي إلى الانهماك في حبّ الدنيا.
ولذلك ذمّه على قوليه السابقين وردعه بقوله: {كَلاّ} كلمة للردع والزجر، أي ليس الإكرام بالغنى، والإهانة بالفقر، وإنما هو بالطاعة والمعصية، والكفار لا يتنبهون لذلك.
{لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} لا يحسنون إليهم مع غناهم. {وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ} لا يحثون أنفسهم أو غيرهم على إطعام المسكين، وقراءة حفص:{تُكْرِمُونَ} ، و {تَحَاضُّونَ} .
{لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} لا يحسنون إليهم مع غناهم. {وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ} لا يحثون أنفسهم أو غيرهم على إطعام المسكين، وقراءة حفص:{تُكْرِمُونَ} ، و {تَحَاضُّونَ} . {وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ} الميراث. {أَكْلاً لَمًّا} شديدا ذا لم، أي جمع بين الحلال والحرام، فإنهم لا يورثون النساء والصبيان، ويأكلون أنصباءهم. {وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا} حبّا كثيرا.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنه بمرصد من أعمال بني آدم، يراقبهم ويجازيهم، عقّبه بتوبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بأمر الآخرة، وفرط تماديه في إصلاح المعاش الدنيوي، كأنه قيل: إن الله يؤثر الآخرة ويرغّب فيها، وأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها وشهواتها، فإذا صار في راحة قال: ربي أكرمني ورفعني، وإن فقد الراحة قال: ربي أهانني وأذلني.
وبعد بيان خطأ الإنسان في تصوره واعتقاده هذا، زجر الناس عن تقصيرهم وارتكابهم المنكرات، ونبّه لما هو شرّ من ذلك، وهو أنه يكرمهم بكثرة المال، ثم لا يؤدون حق الله فيه، فلا يحسنون إلى اليتامى والمساكين، ويتناهبون الميراث دون إعطاء النساء والصبيان حقوقهم، ويحصرون على جمع المال حرصا شديدا.
التفسير والبيان:
{فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ} أي إن الإنسان مخطئ في تفكيره أنه إذا امتحنه ربّه واختبره بالنعم، فأكرمه
بالمال، ووسع عليه الرزق، فيقول: ربي أكرمني وفضلني واصطفاني ورفعني وعافاني من العقوبة، معتقدا أن ذلك هو الكرامة، فرحا بما نال، وسرورا بما أعطي، غير شاكر الله على ذلك، ولا مدرك أن ذلك امتحان له من ربّه.
والمراد بالإنسان الجنس، وليس الكافر فقط، ويوجد هذا في كثير من أهل الإسلام
(1)
.
والمقصود من الآية أن الله ينكر على الإنسان ويوبخه في اعتقاده أنه إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره فيه، كان ذلك إكراما من الله له، وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون 55/ 23 - 56].
ونظيره أيضا قوله تعالى في صفة الكفار: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} [الروم 7/ 30]، وقوله أيضا:{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ} [الحج 10/ 22].
والخلاصة: أن الغنى والثروة أو الجاه والسلطة ليس دليلا على رضا الله عن العبد؛ لأن ذلك لا قيمة له عند الله تعالى.
ثم ذكر الجانب الآخر وهو أن الفقر والتقتير ليس دليلا على سخط الله على العبد، فقال:{وَأَمّا إِذا مَا ابْتَلاهُ، فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَهانَنِ} أي وأما إذا ما اختبره وامتحنه بالفقر والتقتير، وضيّق عليه رزقه ولم يوسعه له، فيقول: ربي أهانني وأذلني. وهذا خطأ أيضا فلا يصح أن يعتقد أن ذلك إهانة له وإذلال لنفسه.
(1)
البحر المحيط: 470/ 8
فالإنسان مخطئ في الحالين؛ لأن سعة الرزق لا تدل على أحقية العبد لها، بدليل ما نشاهده من غنى الكفار وثروة الفساق والعصاة.
وضيق الرزق ليس دليلا على عدم الاستحقاق، بدليل ما نراه من فقر بعض الأنبياء وأكابر المؤمنين والصلحاء والعلماء.
والكرامة عند الله للطائع الموفق لعمل الآخرة، والإهانة والخذلان عند الله للعاصي غير الموفق للطاعة وعمل أهل الجنة، وليست سعة الدنيا كرامة ورفعة، ولا ضيقها إهانة ومذلة، وإنما الغنى اختبار للغني هل يشكر، والفقر اختبار له هل يصبر
(1)
.
ونظرا للخطأ في الحالين ردع الله الإنسان بقوله:
{كَلاّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ} أي ردع وزجر للإنسان القائل في الحالتين السابقتين ما قال، فليس الأمر كما زعم، فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، فإذا كان غنيا، شكر الله على نعمته، وإذا كان فقيرا صبر.
وبعد أن ذمّهم على قبح الأقوال، ذمّهم على قبح الأفعال الذي هو شرّ من سابقه، وهو أنه يكرمهم بكثرة المال، ثم لا يؤدون حق الله فيه، فأنتم أيها الأغنياء الموسرون لا تكرمون اليتيم ولا تحسنون إليه، ولا تحضون أنفسكم أو غيركم على إطعام المساكين، ولا يحث بعضكم بعضا على صلة الفقراء، ولا تأمرون بعضكم بعضا بالإحسان إلى المحتاجين.
وفي قوله: {بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} أمر بإكرام الأيتام، كما
جاء في
(1)
فتح القدير للشوكاني.