الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بانتصاب القامة وحسن الصورة واستجماع خواص الكائنات، يقال: قوّم الشيء تقويما: جعله على أعدل وجه وأكمل صورة. والتقويم أيضا: معرفة قدر الشيء وقيمته. {ثُمَّ رَدَدْناهُ} رددنا بعض أفراده وهو الكافر أو بعض الناس. {أَسْفَلَ سافِلِينَ} أي جعلناه من أهل النار الذين هم أسفل من كل سافل، وقيل: هو كناية عن الهرم والضعف، وأرذل العمر (أي الخرف) فيكون:
{إِلاَّ الَّذِينَ.} . استثناء منقطعا بمعنى لكن. {غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير مقطوع عنهم، جاء في الحديث الذي أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس:«إذا كبر العبد وضعف عن العمل، كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته» .
{فَما يُكَذِّبُكَ} أيها الكافر. {بَعْدُ} بعد ما ذكر من خلق الإنسان في أحسن صورة، ثم رده إلى أرذل العمر، الدال على القدرة الإلهية على البعث. {بِالدِّينِ} الجزاء بعد البعث والحساب، أي ما يجعلك مكذبا بالبعث ولا جاعل ولا موجب لهذا التكذيب؟
سبب النزول:
نزول الآية (5):
{ثُمَّ رَدَدْناهُ.} .: أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ} قال: هم نفر، ردوا إلى أرذل العمر، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسئل عنهم حتى سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم، أن لهم أجرهم الذي عملوا، قبل أن تذهب عقولهم.
التفسير والبيان:
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} أي قسما بالتين الذي يأكله الناس، وبالزيتون الذي يعصرون منه الزيت، فالمراد من التين والزيتون هذان الشيئان المشهوران، قال ابن عباس: هو تينكم وزيتونكم هذا.
وهما كناية عن البلاد المقدسة التي اشتهرت بإنبات التين والزيتون. وإنما أقسم بالتين؛ لأنه غذاء وفاكهة ودواء، فهو غذاء لأنه طعام لطيف، سريع الهضم، لا يمكث في المعدة، يلين الطبع، ويقلل البلغم، ويطهر الكليتين،
ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمّن البدن، ويفتح مسام الكبد والطحال، وهو خير الفواكه وأحمدها.
وكونه دواء لأنه يتداوى به في إخراج فضول البدن، وفي الحديث الحسن الذي رواه ابن السني وأبو نعيم عن أبي ذر، وضعفه السيوطي:«إنه يقطع البواسير، وينفع من النّقرس» .
وكذلك الزيتون فاكهة وإدام ودواء، يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب لبعض أهل البلاد ودهنهم، ويدخل في كثير من الأدوية، قال تعالى:
{يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور 35/ 24].
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة وهو ضعيف: «كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة» .
{وَطُورِ سِينِينَ} هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام، وهو طور سيناء.
{وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} أي مكة المكرمة التي كرمها الله بالكعبة المشرفة، وبميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وإرساله فيه، سمي أمينا لأنه آمن ومأمون فيه، كما قال تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} [آل عمران 97/ 3].
أقسم الله سبحانه بهذه المواضع الثلاثة؛ لأنها مهابط وحي الله على أولي العزم من الرسل، ومنها أضاءت الهداية للبشر. وجاء في آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء-يعني الذي كلم الله عليه موسى بن عمران-وأشرق من ساعير-يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى- واستعلن من جبال فاران-يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمدا صلى الله عليه وسلم.
وذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما.
ثم ذكر جواب القسم المحلوف عليه، فقال:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أي أقسم بالأشياء الثلاثة المذكورة على أننا خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأجمل شكل، منتصب القامة، سويّ الأعضاء، حسن التركيب، يأكل بيده، يتميز بالعلم والفكر والكلام والتدبير والحكمة، فصلح بذلك أن يكون خليفة مستخلفا في الأرض كما أراد الله له.
والخلاصة: خلقناه في أحسن تعديل شكلا وانتصابا، كما قال أكثر المفسرين.
ذكر القرطبي القصة التالية التي توضح حسن تقويم الإنسان، فقال:
كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبّا شديدا، فقال لها يوما:
أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر؛ فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني! وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح، غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعا عظيما، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم، فقال جميع من حضر: قد طلّقت؛ إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتا.
فقال له المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال له الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه.
فقال المنصور لعيسى بن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل: أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك.
ثم عقب القرطبي على هذا قائلا: فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق الله باطنا وظاهرا، جمال هيئة، وبديع تركيب: الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه،
والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه
(1)
.
لكنه غفل عن هذه المقومات، وأهمل هذه الميزات، وأخذ يعمل بهواه وشهواته، لذا قال تعالى:
{ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ} قيل: إلى النار التي هي أسفل الدرجات إن لم يطع الله ويتبع الرسل، والأولى أن يقال: رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم والضعف، والخرف ونقص العقل، بعد الشباب والقوة، وجمال النطق، وسلامة الفكر.
والقول الأول، أي إلى النار بسبب كفر بعض الناس هو قول الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة، وعلى هذا يكون الاستثناء الآتي:{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا.} . استثناء متصلا.
والقول الثاني، أي إلى أرذل العمر هو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك والنخعي، وعلى هذا يكون الاستثناء التالي منقطعا. وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا، بل في الجنس من يعتريه ذلك. واختار ذلك ابن جرير.
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ، فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي إلا الذين آمنوا بالله ورسله واليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال من أداء الفرائض والطاعات، فلهم ثواب على طاعاتهم دائم غير منقطع.
والمعنى كما أشرنا على التفسير الأول وكون الاستثناء متصلا: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} بأن جمعوا بين الإيمان والعمل في حال الاستطاعة، فلهم ثواب جزيل، ينجون به من النار أسفل السافلين، وهو الجنة دار المتقين.
(1)
تفسير القرطبي: 114/ 20
والمعنى على التفسير الثاني وكون الاستثناء منقطعا وهو الراجح لدينا: لكن المؤمنين المتقين، فإن الله يكافئهم بثواب دائم غير منقطع، بسبب صبرهم على ما ابتلوا به من الشيخوخة والهرم والمواظبة على الطاعات بقدر الإمكان، مع ضعف البنية، وفتور الأعضاء، أي أنهم قد يردون إلى أرذل العمر كغيرهم، لكن لهم أجرا كبيرا دائما على أفعالهم.
قال الألوسي: المتبادر من السياق الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة، وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها، بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها؛ لعدم شكره تلك النعمة وعمله بموجبها
(1)
.
أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب الله تعالى له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحا مقيما» .
وفي رواية عنه: ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} .
وأخرج الطبراني عن شدّاد بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تبارك وتعالى يقول: «إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا، فحمدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الربّ عز وجل: إني أنا قيّدت عبدي هذا، وابتليته، فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك» وهو حديث صحيح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: إذا كبر العبد، وضعف عن العمل، كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته.
ورأى بعضهم أن الاستثناء متصل حتى على القول الثاني، فلا يردّ المؤمن المتقي إلى أرذل العمر، بدليل ما أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان
(1)
تفسير الألوسي: 476/ 30
عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر، وذلك قوله تعالى:
{ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} قال: إلا الذين قرءوا القرآن.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير نحوه، فقال: من جمع القرآن لم يرد إلى أرذل العمر.
ثم وبّخ الكفار على التكذيب بالجزاء بعد البعث، فقال:
{فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ؟} المراد: فأي شيء يلجئك بعد هذه البيانات والأدلة على قدرة الله إلى أن تكون كاذبا، بسبب تكذيب الجزاء؛ لأن كل مكذّب بالحق فهو كاذب؟ فإذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردّك بسبب الكفر أسفل سافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ لقد علمت البدأة، وعرفت أن من قدر على البدأة، فهو قادر على الرجعة بطريق أولى، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد، وقد عرفت هذا؟ ثم أكّد ما سبق بقوله:
{أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ} أي أما هو أحكم الحاكمين قضاء وعدلا، الذي لا يجور ولا يظلم، ومن عدله أن يقيم القيامة، فينتصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه؟! أخرج الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا:«فإذا قرأ أحدكم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، فأتى على آخرها: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ} فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين» .