الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كعب بن مالك في " الصحيحين " وغيرهما: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى:" يا كعب {" فقال: لبيك يا رسول الله} قال: " ضع من دينك هذا "، وأومأ إليه؛ أي: الشطر، قال: قد فعلت يا رسول الله! قال: " قم فاقضه ".
وهذا الحديث فيه دليل على ما ذكرناه من الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح؛ لأنه شفاعة لمن عليه الدين باستيضاع من له الدين بعضه، وفيه إرشاد إلى الصلح أيضا.
وقد سبق في كتاب الصلح ما يدل على مشروعيته من الكتاب والسنة، والقاضي داخل في عموم الأدلة.
(
[حكم القاضي لا يحلل الحرام] :)
(وحكمه ينفذ ظاهرا فقط) ؛ لحديث أم سلمة في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن (1) بحجته من بعض، فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ".
وقد حكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحل الحرام.
قال النووي: والقول بأن حكم الحاكم يحلل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا
(1) • أي: أبلغ - كما في رواية في " الصحيحين " - (ن) .
الحديث الصحيح وللإجماع المذكور.
وبالجملة؛ فلا وجه لما ذهبت إليه الحنفية من أن حكم الحاكم ينفذ ظاهرا وباطنا، ويحلل الحرام، وقد جاؤوا في هذا المقام بما لا ينفق على من له في العلم قدم.
وتفصيل ذلك في " نيل الأوطار " و " مسك الختام ".
واللحن مفتوحة الحاء: الفطنة، يقال: لحنت للشيء - بكسر الحاء - ألحن له لحنا، أي: فطنت، وأما اللحن بسكون الحاء؛ فهو: الخطأ.
قال في " المسوى ":
" اتفق أهل العلم عن أن القضاء في الدماء والأملاك المطلقة لا ينفذ إلا ظاهرا.
واختلفوا في العقود والفسوخ؛ فذهب أبو حنيفة إلى أنه ينفذ القضاء فيها ظاهرا وباطنا؛ حتى لو شهد شاهدان زورا أن فلانا طلق امرأته، فقضى به القاضي؛ وقعت الفرقة بينهما بقضائه، ويجوز لكل من الشاهدين أن ينكحها.
وقال الشافعي: لا ينفذ باطنا.
وأما المسائل المختلف فيها؛ مثل أن يقضي حنفي بشفعة الجار لرجل لا يعتقد ثبوتها، أو مات رجل عن جد وأخ؛ فقضى القاضي بالميراث للجد على مذهب الصديق - رضي الله تعالى عنه -، والمحكوم له يرى رأي زيد، أو مات رجل عن خال لا يرى توريث ذوي الأرحام؛ فقضى له القاضي بالمال؛ فأكثر أصحاب الشافعي على أنه ينفذ ظاهرا وباطنا؛ لأنه أمر مجتهد فيه لا يتصور
ظهور الخطأ فيه يقينا في الدنيا.
وفي الحديث دليل على أن كل مجتهد ليس بمصيب؛ إنما الإصابة لواحد.
وإثم الخطأ موضوع عن الآخر؛ لكونه معذورا فيه؛ وعليه أكثر أهل العلم.
وفي الحديث دليل على أن بينة المدعي مسموعة بعد يمين المدعى عليه، وعليه الشافعي (1) ". انتهى.
(فمن قضي له بشيء فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقا للواقع) لما تقرر أن حكم الحاكم ظني سواء تعلق بمحكوم فيه قطعي أو ظني - في إيقاع أو وقوع - فلا ينفذ إلا ظاهرا لا باطنا، فلا يحل به الحرام ولا يحرم به الحلال للمحكوم له والمحكوم عليه، ولكنه يجب امتثاله بحكم الشرع.
ويجبر من امتنع منه، فإن كان المحكوم له يعلم بأن الحكم له بباطل لم يحلل له قبوله، ولا يجوز له استحلاله بمجرد حكم الحاكم من غير فرق.
ومن قال: ينفذ حكم الحاكم ظاهرا وباطنا؛ فمقالته باطلة، وشبهتها داحضة، وقد دفعها الله عز وجل في كتابه العزيز بقوله:{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} ، ودفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:" فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار ".
(1) أين الاستدلال على هذا في الحديث الذي سبق؟ {وسيأتي في آخر (كتاب الخصومة) اختيار المصنف والشارح عدم قبول البينة بعد اليمين، ولم يأت هناك بشيء من الأحاديث للاستدلال على أحد القولين} (ش)
هذا على تقدير أنهم يعممون المسألة في الأموال وغيرها، والذي في كتبهم تخصيص ذلك بما عدا الأموال.
ولا يختلف في هذا من يقول بأن كل مجتهد مصيب! ومن لا يقول بذلك؛ لأن القائل بالتصويب لا يريد بذلك أن المجتهد قد أصاب ما في نفس الأمر، وما هو الحكم عند الله عز وجل وإنما يريد أن حكمه في المسألة هو الذي كلف به وإن كان خطأ في الواقع، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
" إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد فأصاب فله أجران "، فجعله مصيبا تارة ومخطئا أخرى، ولو كان مصيبا دائما لم يصح هذا التقسيم النبوي.
وبهذا نعرف أن المراد بقول من قال: كل مجتهد مصيب؛ أنه أراد من الصواب الذي لا ينافي الخطأ؛ لا من الإصابة التي تنافيه؛ والله أعلم.