الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مناقضتها لقضايا العقول]
وأما مناقضتها لقضايا العقول فلأن الشرط يستحيل أن يتأخر وجوده عن وجود المشروط، ويتقدم المشروط عليه في الوجود، هذا مما لا يُعقل عند أحد من العقلاء؛ فإن رتبة الشرط التقدم أو المقارنة، والفقهاء وسائرُ العقلاء معهم مجمعون على ذلك؛ فلو صح تعليق المشروط بشرطٍ متأخر بعده لكان ذلك إخراجًا له عن كونه شرطًا أو جزء شرط أو علة أو سببًا؛ فإن الحكم لا يسبق شَرْطَه ولا سببه ولا علَّته؛ إذ في ذلك إخراج الشروط والأسباب والعلل عن حقائقها وأحكامها، ولو جاز تقديم الحكم على شرطه لجَازَ تقديم وقوع الطلاق على إيقاعه؛ فإن الإيقاعَ سبب، والأسباب تتقدم مسبباتها، كما أن الشروط رتبتها التقدم؛ فإذا جاز إخراج هذا عن رتبته جاز إخراج الآخر عن رتبته، فجوَّزوا حينئذٍ تقدمَ الطلاق على التطليق والعتق على الإعتاق والملك على البيع، وحِل المنكوحة على عقد النكاح. وهل هذا في الشرعيات إلا بمنزلة تقدم (1) الانكسار على الكَسْر والسيل على المطر والشبع على الأكل والولد على الوطء وأمثال ذلك؟ ولا سيما على أصل منْ يجعل هذه العلل والأسباب علاماتٍ محضةً، ولا تأثير لها، بل هي معرِّفات، والمعرِّف يجوز تأخيره عن المعرَّف (2).
وبهذا يخرج الجواب عن قولكم: إن الشروط الشرعية مُعَرِّفات وأمارات وعلامات، والعلامة يجوز تأخرها؛ فإن هذا وهم وإيهام من وجهين:
أحدهما: أن الفقهاء مجمعون على أن الشرائط الشرعية لا يجوز تأخرها عن المشروط، ولو تأخرت لم تكن شروطًا.
[أنواع الشروط وأحكام أنواعها]
الثاني: أن هذا شرط لغوي كقوله: "إن كلَّمتِ زيدًا فأنت طالق" ونحو ذلك، و"إن خرجت بغير إذني فأنت طالق" ونحو ذلك، والشروط اللغوية أسباب وعلل مقتضية لأحكامها اقتضاء المسببات لأسبابها، ألا ترى أن قوله:"إن دخلت الدار فأنت طالق" سبب ومسبب ومؤثر وأثر، ولهذا يقع جوابًا عن العلة، فإذا قال:"لم أطلقها؟ " قال: لوجود الشرط الذي علقت عليه الطلاق، فلولا أن وجوده مؤثر في الإيقاع لما صح هذا الجواب، ولهذا يصح أن يخرجه بصيغة
(1) في (ق): "تقديم".
(2)
في (ك): "العرف".
القسم فيقول: الطلاق يلزمني لا تدخلين الدار؛ فيجعل إلزامه للطلاق في المستقبل مسببًا عن دخولها الدار بالقسم والشرط، وقد غلط في هذا طائفة من الناس حيث قَسَّموا الشرط إلى شرعي ولغوي وعقلي، ثم حكموا عليه بحكم شامل فقالوا: الشرط يجب تقديمه على المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط، ويلزم من انتفائه انتفاء المشروط كالطهارة للصلاة والحياة للعلم. ثم أوردوا على نفسهم (1) الشرطَ اللغوي؛ فإنه يلزم من وجوده وجود المشروط، ولا يلزم من انتفائه انتفاؤه؛ لجواز وقوعه بسبب آخر، ولم يجيبوا عن هذا الإيراد بطائل، والتحقيق أن الشروط اللغوية أسباب عقلية، والسبب إذا تم لزم من وجوده وجود مسببه، وإذا انتفى لم يلزم نفي المسبب مطلقًا؛ لجواز خلف سبب آخر، بل يلزم انتفاء السبب المعين عن هذا المسبب (2).
وأما قولكم: "إنه صَدَرَ من هذا الزوج طلاقان مُنَجز ومُعَلق، والمحل قابل لهما" فجوابه بالمنع، فإن المحل ليس بقابل للمعلق؛ فإنه يتضمن المحال، والمحل لا يقبل المحال، نعم هو قابل للمنجز وحده، فلا مانع من وقوعه، وكيف تصح دعواكم أن المحلَّ قابل للمعلق، ومنازعكم إنما نازَعَكم فيه، وقال: ليس المحل بقابل للمعلق، فجعلتم نفس الدعوى مقدمة في الدليل.
وقولكم: "إن الزوج ممن يملك التنجيز والتعليق" جوابه أنه إنما يملك (3) التعليق الممكن، فأما التعليق المستحيل فلم يملكه شرعًا ولا عرفًا ولا عادةً، وقولكم:"لا مزية لأحدهما على الآخر" باطلٌ، بل المزية كل المزية لأحدهما على الآخر؛ فإن المنجَّزَ له مزية الإمكان في نفسه، والمعلق له مزية الاستحالة والامتناع، فلم يتمانعا ولم يتساقطا، فلم يمنع من وقوع المنجز مانعٌ (4)، وقولكم:"إنه نظير ما لو تزوج أختين في عقد" جوابه أنه تنظير باطل؛ فإنه ليس نكاح إحداهما شرطًا في نكاح الأخرى، بخلاف مسألتنا، فإن المنجز شرط في وقوع المعلق، وذلك عين المحال.
وقولكم: "إنه لا مزية لأحد الطلاقين على الآخر" باطل، [بل للمنجز مزية] (5) من عدة وجوه:
(1) في (ق): "نفوسهم".
(2)
في (ق): "السبب".
(3)
في (ك) و (ق): "ملك".
(4)
سقط من (ك).
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق).
أحدها: قول التنجيز على التعليق.
الثاني: أن التنجيز لا خلاف في وقوع الطلاق به.
وأما التعليق ففيه نزاع مشهور بين الفقهاء (1)، والموقِعُون لم يقيموا (2) على المانعين حجةً توجب المصير إليها مع تناقضهم فيما يَقْبل التعليق وما لا يقبله، فمنازعوهم يقولون: الطلاق لا يقبل التعليق كما قلتم أنتم في الإسقاط والوقف والنكاح والبيع، ولم يفرق هؤلاء بفرقِ صحيح، وليس الغرض ذكر تناقضهم، بل الغرض أن للمنجَّز مزية على المعلَّق.
الثالث: أن المشروط هو المقصود لذاته والشرط تابع ووسيلة.
الرابع: أن المنجز لا مانع من وقوعه لأهلية الفاعل وقبول المحل، والتعليق المحال لا يصلح أن يكون مانعًا من اقتضاءِ السببِ الصحيح أثره.
الخامس: أن صحة التعليق فرع على ملك التنجيز، فإذا انتفى ملكه للمنجز في هذه المسألة انتفى صحة التعليق، فصحة التعليق تمنع من صحته، وهذه معارضة صحيحة في أصل المسألة فتأملها.
السادس: أنه لو قال في مرضه: "إذا أعتقتُ سالمًا فغانمٌ حرٌّ" ثم أعتق سالمًا ولا يخرجان من الثلث قدم المُعْتَق (3) المنجَّز على المعلق لقوته؛ يوضحه:
الوجه السابع: أنه لو قال لغيره: "ادخل الدار فإذا دخلت [فقد] (4) أخرجتك" وهو نظيره في القوة؛ فإذا دخل لم يمكنه إخراجه، وهذا المثال وزان
(1) قال أبو حنيفة والشافعي: لا يقع إلا عند مجيء الأجل، وعن مالك روايتان، والراجح أن الطلاق يقع إذا جاء الأجل.
انظر للحنفية: "مختصر الطحاوي"(198 - 199)، "المبسوط"(6/ 114)، "مختصر اختلاف العلماء"(2/ 438 رقم 949)، "بدائع الصنائع"(5/ 91).
وللشافعية "الأم"(5/ 184)، "حلية العلماء"(7/ 91)، "إخلاص الناوي"(3/ 215).
وللمالكية: "المدونة"(2/ 375، 389 - ط دار صادر)، "التفريع"(2/ 83 - 84)، "الكافي"(226 - 227)، "المعونة"(2/ 844)، "جامع الأمهات"(ص 300)، "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 348)، "الخرشي"(4/ 54)، "الإشراف"(3/ 432 رقم 1247) وتعليقي عليه. و"مجموع فتاوى ابن تيمية"(33/ 44 - 46)، "السنن الكبرى"(7/ 356) للبيهقي و"الدرة المضية"(13 - 16) للسبكي.
(2)
في (ق): "يجيئوا".
(3)
في (د)، و (ط) و (ك) و (ق):"قدم عتق".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.