الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المشروط، وإنما يرتبط به، والارتباط أعم من السابق والمقارن والمتأخر، والأعم لا يستلزم الأخص.
ونكتة الفرق: أن الإيقاع موجِبٌ للوقوع؛ فلا يجوز أن يسبقه أثره وموجبه، والشرط علامة على المشروط؛ فيجوز أن يكون قبله وبعده، فوِزانُ الشرط وزِانُ الدليل، ووزانُ الإيقاع وزانُ العلة، فافترقا.
وأما قولكم: "إن هذا التعليق يتضمن المُحَالَ إلى آخره" فجوابه أن هذا التعليق تضمن شرطًا ومشروطًا، وقد تعقد القضية الشرطية في ذلك للوقوع، وقد تعقد للإبطال؛ فلا يوجد فيها الشرط ولا الجزاء، بل تعليق (1) ممتنع بممتنع، فتصدق الشرطية وإن انتفى كلٌّ من جزئيها، كما تقول:"لو كان مع اللَّه إلهٌ آخر لفسد العالم"، وكما في قوله:{إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] ومعلوم أنه لم يقله ولم يعلمه اللَّه، وهكذا قوله:"إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا" فقضيةٌ عقدت لامتناع وقوع طرفيها، وهما المنجز والمعلق.
[طلاقان يسبق أحدهما الآخر]
ثم نذكر في ذلك قياسًا [آخر](2) حَرَّره الشيخ أبو إسحاق رحمه اللَّه تعالى، فقال: طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر؛ فوجب أن ينفي السابقُ منهما المتأخر. نظيره أن يقول لامرأته: "إن قَدِم زيد فأنت طالق ثلاثًا (3)، وإن قدم عمرو (4) فأنت طالقٌ طلقة، فقدم زيد بُكرةً وعمرو عشيةً (5). ونكتة المسألة أنَّا لو أوقعنا الطلاق المباشر لزمنا أن نوقع قبله ثلاثًا ولو أوقعنا قبله ثلاثًا لامتنع وقوعه في نفسه؛ فقد أدى الحكم بوقوعه إلى الحكم بعدم وقوعه، فلا يقع.
[عود إلى رد السُّريجيين]
وقولكم: "إن هذه اليمين تُفْضِي إلى سد باب الطلاق، وذلك تغيير [لشرع اللَّه] (6)؛ فإن اللَّه مَلكَ الزوجَ الطلاق رحمة به -إلى آخره" جوابه أن هذا ليس فيه تغيير للشرع، وإنما هو إتيانٌ بالسبب الذي ضيَّق به على نفسه ما وسعه اللَّه عليه، وهو هذه اليمين، وهذا ليس تغييرًا للشرع. ألا ترى أن اللَّه تعالى وَسَّع عليه
(1) في (ق) و (ك): "تعلق".
(2)
سقط من (ق).
(3)
في (ن) و (ق): "فأنت طالق قبله ثلاثًا".
(4)
في (ك) و (ق): "عمر".
(5)
انظر: "المهذب"(2/ 92 - 93).
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
أمر الطلاق فجعله واحدة بعد واحدة ثلاث مرات لئلا يندم، فإذا ضيق على نفسه وأوقعها بفمٍ واحدٍ حصر نفسه وضيّق عليها ومنعها ما كان حلالًا لها، وربما لم يبق له سبيل إلى عَوْدها إليه، ولذلك جعل اللَّه تعالى الطلاق إلى الرجال، ولم يجعل للنساء فيه حظًا؛ لنقصان عقولهن وأديانهن، فلو جعله إليهن لكان فيه فسادُ كبيرٌ تأباه حكمة الرب تعالى ورحمته بعباده، فكانت المرأة لا تشاء أن تستبدل بالزوج إلا استبدلت به، بخلاف الرجال؛ فإنهم أكمل عقولًا وأثبت، فلا يستبدل بالزوجة إلا إذا عِيلَ صبره، ثم إن الزوج (1) قد يجعل طلاق امرأته (2) بيدها، بأن يملّكها ذلك أو يحلف عليها أن (3) لا تفعل كذا، فتختار طلاقه متى شاءت، ويبقى الطلاق بيدها، وليس في هذا تغيير للشرع؛ لأنه هو الذي ألزم نفسه هذا الحرج بيمينه وتمليكه، ونظير هذا ما قاله فقهاء الكوفة قديمًا وحديثًا: إنه لو قال: "كل امرأة أتزوجها فهي طالق" لم يمكنه أن يتزوج بعد ذلك امرأة، حتى قيل: إن أهل الكوفة أطبقوا (4) على هذا القول، ولم يكن [في](5) ذلك تغيير للشريعة؛ فإنه هو الذي ضيَّق على نفسه ما وَسَّع اللَّه عليه، ونظير هذا لو قال:"كل عبد وأمة أملكهما فهما حُرَّان" لم يكن [له](5) سبيل بعد هذا إلى ملك رقيق أصلًا، وليس في هذا تغيير للشرع، بل هو المضيق على نفسه، والضيق والحرج الذي يُدْخِله المكلف على نفسه لا يلزم أن يكون الشارع قد شَرَعه له، وإن ألزمه به بعد أن ألزم نفسه، ألا ترى أن مَنْ كان معه ألف دينار فاشترى بها جارية فأولدها ثم ساءت العشرة بينهما لم يبق له طريق إلى الاستبدال بها، وعليه ضررٌ في إعتاقها أو تزويجها أو إمساكها ولا بد له من أحَدِها.
ثم نقول في معارضة ما ذكرتم: قد (6) يكون في هذه اليمين مصلحة له وغرض صحيح، بأن يكون محبًا لزوجته شديدَ الإلفِ بها، وهو مشفقٌ من أن ينزغ الشيطان بينهما فيقع منه طلاقها من غضبة أو موجدة، أو يحلف يمينًا بالطلاق أو يُبْلَى بمن يستحلفه بالطلاق ويضطر إلى الحنث، أو يُبْلَى بظالم يكرهه على الطلاق ويرفعه إلى حاكم ينفذه، أو يُبْلَى بشاهدَيْ زورٍ يشهدان عليه بالطلاق، وفي ذلك ضرر عظيم به، وكان من محاسن الشريعة أن يُجعل له طريقًا إلى الأمن من ذلك كله، ولا طريق أحسن من هذه؛ فلا ينكر من محاسن هذه الشريعة الكاملة أن
(1) في (ك): "الرجل".
(2)
في (ق): "المرأة".
(3)
في (ق): "فإن".
(4)
في (ق): "اتفقوا".
(5)
سقط من (ق).
(6)
في المطبوع: "بل".