الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فقد علَّق الطلاق بما هو ممكن في ظنه فيصح تعليقه، وإذا لم يجهل استحالة العلم بالمشيئة](1)، فقد علَّقه على محال يعلم استحالته فلا يصح [التعليق](2)، وهذا أحد الأقوال في تعليقه بالمحال.
قلت: وقولهم: "إن العلم بمشية الرب محال" خطأ محض، فإن [مشيئة الرب تُعْلَم بوقوع الأسباب التي تقتضي مسبباتها؛ فإن مشيئة المسبب](3) مشيئة لحكمه، فإذا أوقع عليها بعد ذلك طلاقًا علمنا أن اللَّه تعالى قد شاء طلاقَهَا.
فهذا تقرير (4) الاحتجاج من الجانبين، ولا يخفى ما تضمنه من رُجحان أحد القولين، واللَّه أعلم.
فصل [الكلام على نية الاستثناء ومتى تعتمد
؟]
وقد قدمنا اختلاف الفقهاء في اشتراط نية الاستثناء وزمنها وأن (5) أضيق الأقوال قول من يشترط النية من أول الكلام، وأوسع منه قول من يشترطها قبل فراغه، وأوسع منه قول من يجوِّز إنشاءها بعد الفراغ من الكلام، كما يقوله أصحاب أحمد وغيرهم، وأوسع منه قول من يجوّزه بالقرب، ولا يشترط اتصاله بالكلام، كما نص عليه أحمد في رواية المروزي فقال: حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "واللَّه لأغزونَّ قريشًا واللَّه لأغزون قريشًا [واللَّه لأغزون قريشًا] "(6) ثم سكت ثم قال: "إن شاء اللَّه"(7)، إذ هو استثناء بالقُرب، ولم يخلط كلامه بغيره، وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي:"سألت أحمد بن حنبل عن الاستثناء في اليمين، فقال: من استثنى بعد اليمين فهو جائز، على مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: "واللَّه لأغزونَّ قريشًا" ثم سكت ثم قال: "إن شاء اللَّه"، ولم يبطل ذلك (8)، قال: ولا أقول فيه بقول هؤلاء، يعني: مَنْ لم يَرَ ذلك إلا متصلًا" هذا لفظ الشالنجي في "مسائله"، وأوسع من ذلك قول من قال: ينفعه الاستثناء، ويصح ما دام في المجلس، نص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه، وهو
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(3)
في (ق): "السبب" بدل "المسبب" وما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(4)
في (ك): "تحرير".
(5)
في (ك): "وأنه".
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك).
(7)
سبق تخريجه قريبًا.
(8)
في (ق) و (ك): "ولم يطل ذلك".
قول الأوزاعي (1) كما سنذكره، وأوسع منه من وجه قَوْل من لا يشترط النية بحال، كما صرَّح به أصحاب أبي حنيفة، قال (2) صاحب "الذخيرة" في (كتاب الطلاق) في الفصل السادس عشر منه: ولو قال لها: "أنت طالق إن شاء اللَّه"، ولا يدري أيّ شيء شاء اللَّه لا يقع الطلاق؛ [لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع، فعِلْمه وجهله يكون سواء، ولو قال لها: "أنت طالق"](3) فجرى على لسانه من غير قَصْد: "إن شاء اللَّه"، وكان قَصْدهُ إيقاع الطلاق لا يقع الطلاق؛ لأن الاستثناء قد وجد حقيقة، والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعًا"، وقال الجوزجاني في "مترجمه": حدثني صفوان: ثنا عمر (4) قال: سُئل الأوزاعي رحمه الله عن رجل حلف: واللَّه لأفعلنَّ كذا وكذا ثم سكت ساعةً لا يتكلم ولا يحدث (5) نفسه بالاستثناء، فيقول له إنسان إلى جانبه: قل: إن شاء اللَّه، فقال: إن شاء اللَّه، أيكفِّرُ عن يمينه؟ فقال: أراه قد استثنى.
وبهذا الإسناد عن الأوزاعي أنه سُئل عن رجل وصله قريبُه بدراهم فقال: واللَّه لا آخذها فقال قريبه: واللَّه لتأخذها فلما سمعه قال: "واللَّه لتأخذها" استثنى في نفسه فقال: إن شاء اللَّه، وليس بين قوله: واللَّه لا آخذها وبين قوله: إن شاء اللَّه كلامٌ إلا انتظاره ما يقول قريبه، أيكفِّر [عن] (6) يمينه إن هو أخذها؟ فقال: لم يحنث؛ لأنه قد استثنى.
ولا ريب أن هذا أفقه وأصح من قول من اشترط نيته مع الشروع في اليمين؛ فإن هذا القول موافق للسنة الصحيحة فعلًا عن (7) النبي صلى الله عليه وسلم، وحكايةً عن أخيه سليمان عليه السلام أنه [لو] (3) قال:"إن شاء اللَّه" بعدما حلف، وذكره المَلَك كان نافعًا له (8)، وموافقًا للقياس ومصالح العباد، ومقتضى الحنيفية السَّمْحَة، ولو اعتبر ما ذكر من اشتراط النية في أول الكلام والاتصال الشديد؛ لزالت رخصة الاستثناء، وقلَّ من انتفع بها إلا مَنْ قد درس على هذا القول وجعله منه على بال.
وقد ضيَّق بعض المالكية في ذلك فقال: لا يكون الاستثناء نافعًا إلا وقد
(1) انظر: "فقه الإمام الأوزاعي"(1/ 488).
(2)
في المطبوع: "وقال".
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وهو في "الذخيرة"(ق 104/ ب).
(4)
في (ك): "عمير".
(5)
في (ق): "ويحدث"، وقال في الهامش:"لعله: ولا يحدث".
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).
(7)
في (ك) و (ق): "من".
(8)
سبق تخريجه قريبًا، وفي (ق):"كان نافعًا وموافق للقياس"!.