الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا قال نَصرُ بن حاجب (1): سُئل ابنُ عُيَيْنة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله، ويحرِّف القول فيه ليرضيه، لم يأثم (2) في ذلك؛ فقال: ألم تسمع قوله: "ليس بكاذب مَنْ أصلح بين الناس فكذب فيه"(3)؛ فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم خير من أن يصلح بين الناس بعضهم في (4) بعض، وذلك إذا (5) أراد به مرضاة اللَّه، وكره أذى المؤمن (6)، ويندم على ما كان منه، ويدفع شره عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا طمعًا (7) في شيء يصيب منهم؛ فإنه لم يرخص في ذلك ورخص (8) له إذا كره مَوْجِدَتهم وخاف عداوتهم.
قال حذيفة: إني أشتري ديني بعضَه ببعض مخافة أن أُقدم (9) على ما هو أعظم منه (10). [وكره -أيضًا- أن يتغير قلبه عليه](11)، قال سفيان: وقال الملكان: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] أرادا معنى شيء ولم يكونا خَصْمين فلم يصيرا بذلك كَاذِبَيْن، وقال إبراهيم:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقال:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقال يوسف:{إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70][أراد معنى أمرهم](12)، فبيَّن سفيان أن هذا [كله](13) من المعاريض المباحة [مع تسميته كذبًا، وإن لم يكن في الحقيقة كذبًا كما تقدم التنبيه على ذلك](13).
فصل [استنباط من قصة يوسف وتعقيب عليه]
وقد احتجَّ بعضُ الفقهاء بقصة يوسف على أنه جائز للإنسان التوصُّلُ إلى
(1) من هنا يستأنف ابن القيم النقل عن شيخ الإسلام، فانظر:"بيان الدليل"(ص 267 - 277)، وفي (ق):"الحاجب".
(2)
في "بيان الدليل ": "أياثم".
(3)
في نسخ "الإعلام": "يكذب فيه"، ومضى تخريج الحديث.
(4)
في نسخ "الإعلام": "من".
(5)
في "بيان الدليل": "أنه".
(6)
في "بيان الدليل": "وكراهته أذى المؤمن"، وفي (ك):"وكره أذى المؤمنين".
(7)
في "بيان الدليل": "ولا لطمع".
(8)
في (ق): "وأرخص".
(9)
في "بيان الدليل": "أتقدم"، وقال محققه:"في الأصل أهدم".
(10)
مضى تخريجه.
(11)
و (12) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل" إذ إن ابن القيم ينقل عنه حرفيًا.
(13)
ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل".
أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا مَنْ عليه الحق.
قال شيخنا رضي الله عنه (1): وهذه الحجة ضعيفة؛ فإن يوسف لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظَلَم يوسف حتى يقال:[إنه](2) قد اقتصَّ منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم تخلّفه عنده كان (3) يؤذيهم من أجل تأذّي أبيهم والميثاقِ الذي أخذه عليهم، وقد استثنى (4) في الميثاق [بقوله] (5):{إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]، وقد أُحيط بهم، ويوسف عليه السلام لم يكن قصده (6) باحتباس أخيه الانتقام من إخوته؛ فإنه كان أكْرَمَ من هذا، وكان في ذلك (7) من الإيذاء لأبيه (8) أعظم مما فيه من إيذاء إخوته، وإنما هو أمرٌ أمره اللَّه به ليبلغَ الكتابُ أجَلَه ويتم البلاء الذي استحق به يعقوب ويوسف [عليه السلام](9) كمالَ الجزاء، وتبلغ حكمة اللَّه التي قضاها لهم نهايتها. ولو كان يوسف قصد القصاص (10) منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به (11)، وإنما مَوْضِع الخِلاف: هل يجوز له أن يسرق أو يخون مَنْ سرقه أو خانه (12) مثل ما سرق منه (13) أو خانه إياه (14)؟
(1) الكلام كله متواصلًا كما ذكرت آنفًا لشيخ الإسلام رحمه الله.
وقال (و): "في نفس الموضع من فتاويه"(ص 212 ج 3) اهـ.
(2)
ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل".
(3)
في "بيان الدليل": "نعم كان تخلفه عنده" بتقديم وتأخير.
(4)
في (ن) و (ق): "استثنوا".
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل".
(6)
في نسخ "الإعلام": "ولم يكن قصد يوسف".
(7)
في "بيان الدليل": "وكان في ضمن هذا"، وأثبت (و) كلمة "ضمن" بين معقوفتين قبل "ذلك"، وقال:"الزيادة هذه من الفتاوى ص 213 ج 3".
(8)
قال (د): "في نسخة: من الإيذاء له أعظم مما. . . إلخ" اهـ.
(9)
ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل".
(10)
في "بيان الدليل": "الاقتصاص".
(11)
لا شك في ذلك، لكن معلوم أن العفو والصفح أفضل؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وقوله سبحانه:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
(12)
في "بيان الدليل" و (ك): "أو يخون سرقة أو خيانة"!
(13)
في "بيان الدليل": "مثل ما سرقه إياه".
(14)
انظر: "تهذيب السنن"(6/ 338، 342)، و"زاد المعاد"(3/ 205)، و"مفتاح دار السعادة"(ص 432)، و"أحكام الجناية"(ص 189 - 202) مهم فراجعه.